إدارة الهدر

 

أم كلثوم الفارسية

حياتنا العصرية تحتاج منا أن التفكير في كل شيء من جديد، ونتعلم لحياتنا من مختلف العلوم، ليس خطأ أبدًا أن نتعلم من الاقتصاد والتجارة والصناعة لنصل في نهاية المطاف لعلم ينقل حياتنا إلى مستوى أكثر جودة وأقل مشكلات.

والطريقة العصرية لبلوغ النجاح ليست المدارس المتهالكة في قالب تربوي منهك، بل يُصنع النجاح بالتعلم المستمر من كل شيء حولنا، وهذا ما يُسمَّى "مدرسة الحياة". ومن هذا المنطلق، أخذني فضولي المعرفي إلى القراءة في علم الإدارة الذي لا يشبه ألبتة كل معرفتي السابقة لأقف وقفة انبهار لمصطلح "إدارة الهدر"، والذي يعني -كما ذكرت "ويكيبيديا"- الصناعة الخالية من الهدر، أو التصنيع الرشيق، أو الإنتاج الرشيق (بالإنجليزية: Lean manufacturing). هذه الفلسفة الإدارية مستمدة في معظمها من نظام إنتاج تويوتا (TPS- تويوتا) في اليابان، والتي عُرفت في التسعينيات من القرن الماضي. وأكثر ما لفت انتباهي حقيقة هو أنَّ تقليل الهدر يُعادل رقميًّا زيادة الإنتاج!

وبما أننا في المجتمعات العربية أشد ما نُعاني منه هو الهدر بصورهِ المختلفة، فقد قررت أن أنقل مفهوم إدارة الهدر من الشركات إلى حياتنا اليومية، مُسقِطةً هذا العلم -إن صح التعبير- على جانبين من حياتنا أنهكهما الهدر بشكل بشع للغاية؛ وهما: هدر الوقت، وهدر المال.

فبالرغم من إيماننا العظيم بأنَّ الوقت هو رأس المال، وأن إدارة الوقت هي إدارة الحياة ذاتها، إلا أننا نقضي الكثير من وقتنا بلا قيمة كأننا نعيش في وقت فراغ طويل جدا، العمل والانجاز فيه هو الاستثناء!

فوقتٌ ثمينٌ كإجازة نهاية الأسبوع يتسرَّب من عُمرنا ونحن في دائرة المجاملات الاجتماعية التي لا معنى لها، والنتيجة إنسان غير مستمتع يُعاني من الغربة الذاتية والتشويش الذهني؛ لأنه عطل الوظيفة الحيوية لهذه الإجازة!

ففي أزمة "كورونا" عندما كان لزامًا علينا أن نقضي الوقت مع أنفسنا وأسرنا، تأزم الكثير من الناس الذين وجدوا أنفسهم مع فائض من الوقت لا يُمكنهم أن يهدروه بالطريقة المسلية التي لا تُزعِج ضمائرهم؛ فكان هدرهم لهذا الوقت مملًا وبائسًا لأنهم يفتقرون لثقافة صُنع اللحظات السعيدة القائمة على تقدير الوقت لا هدره.

صِدقًا إنَّ هدر الوقت جريمة نمارسها بسذاجة في حق أنفسنا، خصوصا مع اللص الأكبر للوقت والحياة "مواقع التواصل الاجتماعي"، إن تعاملنا غير الواعي مع كل هذه المتغيرات العصرية يُعزِّز فينا ثقافة هدر الوقت عِوَضًا عن إدارته.

أمَّا عن هدر المال، فبعيدًا عن مظاهر الثراء الفاحش التي يظهر بها بعض الأثرياء، والتي قد تخبرنا بأنهم مسرفون ومبذِّرون لا يُقدرون نعمة المال، إلا أن هناك الكثير من الأثرياء؛ بل الأكثر منهم، حريصون جدًّا على المال وإدارته بالطريقة التي تُلبِّي أسلوب معيشتهم دون هدر في النفقات، هم عبقريون جدًّا في وضع أموالهم في أماكنها الصحيحة دون إفراط ولا تفريط، وهذا سر من أسرار ثرائهم في حقيقة الأمر.

أعلمُ أنه قد يَصْعُب على الكثير منا زيادة مصادر دخله، ولكن دون أدنى شك جميعنا قادرون على التحكم فيما نملك وفيما يقع بينا أيدينا من موارد.

قد تأتي عليك لحظات تعتقد أنك قد أفلست، ويسيطر عليك الإحباط، ولكن نظرة واحدة إلى دخلك وأسلوب معيشتك، ومحاولة جادة لإدارة النثريات التي تَسْتَنزف أموالك من حيث لا تدري، قد تقلب المعادلة.

فعلى سبيل المثال لا الحصر: شراء كوب قهوة يوميا يستنزف منك 60 ريالًا شهريًّا و720 ريالًا سنويًّا. لذلك؛ في كثير من الحالات، تمثل القهوة قناة هدر مالية وَجَب الوقوف عليها، وتعديل مثل هذه العادة سيُحدِث بلا شك تغييرًا في وضعك المادي. لا نقول إنَّ هذا التعديل سيجعل منك ثريًّا ويخلِّصك من الديون، لكن سيُحسِّن من إدارتك المالية التي ستنعكس على حياتك بكل تأكيد، وقِس على ذلك الاشتراك في منصات الأفلام والديكورات الموسمية وملابس الموضة والترند...إلخ.

نحن بحاجة حقيقية إلى تعلُّم الوعي المالي وإدارة النفقات؛ لأننا ومع أول معلومة مالية نكون قد وضعنا أنفسنا على الطريق الصحيح، ربما تكون حريتك المالية أقرب إليك مما تتصوَّر بإدارة قنوات هدر تجاهلتها كثيرا، وقد آن أوان ترتيبها.

وأخيرًا.. لتعلم، يا صديقي، أنَّ الإصلاح الحقيقي يبدأ من وقتك وجيبك، فمن هدرهما تتسرَّب طاقات وفرصٌ لا حدود لها، كان من الممكن أن تُحدِث نقلة نوعية في حياتك.

تعليق عبر الفيس بوك