ظاهرة التشكيك في كل شيء!

مدرين المكتومية

تواجه الدول والشعوب -في ظروف معينة- تحديات جسيمة تتعلق ببناء جدار الثقة المجتمعية؛ ففي ظل غياب الوعي المجتمعي وسعي البعض لتضليل الناس واللعب على أوتار اجتماعية حساسة، تتزايد حالات عدم الثقة ويتراجع اليقين لدى أوساط مجتمعية محددة، فيبدأون كيل الاتهامات المجانية دون دليل، والتشكيك في كل ما يحدث من حولهم، ليس استنادًا إلى حقائق وإنما اعتمادًا على أهوائهم وضلالاتهم التي انغمسوا فيها بصورة أو أخرى؛ الأمر الذي يُلحق ضررًا كبيرًا بالوعي الجمعي، ويتسبَّب في استنزاف المجتمع ويهدد بانزلاقات خطيرة تهدد وحدة المجتمع وتماسكه.

ومن هنا؛ لا يُمكن تصوُّر كاتب أو ناشط على وسائل التواصل الاجتماعي، يتحدث في الشأن الاقتصادي والمجال العام، دون أن يرتكز على معلومة صحيحة وأرقام دقيقة، كي يصل إلى نتائج سليمة، ومن ثم يُدلي برأي معتدل وقويم؛ فالذي يكتب من أجل إثارة مشاعر الناس أو دغدغتها كي يحظى بأكثر عدد من "اللايكات" أو المتابعين، أو يصفونه بأنه "كاتب كبير"، هو بمثابة ظاهرة صوتية مؤقتة لن تلبث سوى وقت قصير ثم تتلاشى؛ لأن الجمهور يبحث عن الإثارة دائمًا، ويسعى لقراءة أو سماع ما تحدِّثه به نفسه، التي في كثير من الأحيان لا تُدرك حقائق الأمور، وتتعامل مع معطيات الواقع بأسلوب يملؤه التشكيك والتأويل الخاطئ والتفسيرات المُنحازة للأهواء.

خلال الفترة الأخيرة، ومع إعلان وزارة المالية البيان الأوَّلي للميزانية العامة للدولة، لاحظتُ أن مغردين وكُتابَ مقالات سعوا للإدلاء بدلوهم في هذا الشأن، وهو أمر مطلوب لكي يعبر كل مواطن عن رأيه فيما يحدث حوله من أحداث، لكن قبل ذلك يتعين على من يريد الكتابة في أمر ما -لا سيما إذا كان في الشأن الاقتصادي- أن يقرأ بتمعُّن الأرقام ويستمع إلى تحليلات الخبراء والمختصين، وقبل كل ذلك يُنصت جيدًا إلى ما يقوله المسؤولون بكل شفافية وموضوعية. ومنذ أن بدأت الأزمات الاقتصادية تتوالى علينا من الخارج، لم نجد مسؤولًا في الدولة ينفي أو يقلل من حجم الأزمة؛ بل خرج الوزراء والمسؤولون ليتحدثوا عن حجم التحديات الاقتصادية التي نُواجهها، وكان الجميع تقريبًا على عِلمٍ ودرايةٍ بكل تفاصيل الأزمات، ووزارة المالية والبنك المركزي العماني والمركز الوطني للإحصاء والمعلومات، مشكورين، يعلنون الأرقام والإحصاءات ذات الصلة باقتصادنا الوطني شهريًّا، وبكل سهولة يُمكن لأي مواطن أن يعرف كم أنفقت الحكومة هذا الشهر وكم حصلت على إيرادات، وكم بلغ حجم العجز المالي أو الفائض، بكبسة زر على أي موقع إخباري، ونحن في جريدة "الرؤية" ننشر مختلف هذه الأرقام والإحصائيات، ونستعين بمتخصصين وخبراء اقتصاد لتحليل مثل هذه الأرقام والبيانات، والتي تؤكد أن الحكومة لا تدخر جهدًا من أجل العمل على تحقيق العيش الكريم لكل مواطن ومواطنة.

تُصيبني دهشة كبيرة عندما أطالع أحدهم يكتب أو يُغرد عن أن المواطن لا يستفيد من الميزانية العامة للدولة، أو أن الفوائض المالية التي حققتها الحكومة خلال 2022 لا تذهب إلى جيب المواطن، وكأن المفترض أن يسير الوزراء والمسؤولون في الشوارع لتوزيع النقود "كاش" على كل مواطن!! وكأن الحكومة من واجبها أن تحصل على الإيرادات لتقوم بمنح كل مواطن "نصيبه" منها! أين نعيش نحن؟ هل نتقدم إلى الأمام أم نعود إلى الوراء، ونتحدث عن مِنح وعطايا للمواطن "عدًّا ونقدًا"!

للأسف الشديد، مثل هذه الآراء تُضلل المواطن، وتصرف نظره تمامًا عمَّا تحقق ولا يزال يتحقق من منجزات على أرض الواقع، فبينما تتجه حاليًا الدول المتقدمة، ومنها بريطانيا، إلى خطط تقشف وتقليص في النفقات نتيجة ما يمر به العالم من أزمات اقتصادية عنيفة، فإننا في عُمان تواصل الحكومة الجهود المُضنية من أجل زيادة الإنفاق، خاصة الإنمائي منه، والذي يذهب مباشرة إلى المواطن في صورة مدارس ومراكز صحية وخدمية وطرق وأفلاج وسدود حماية، فضلًا عن الإنفاق الاستثماري الذي يتحول إلى مشاريع استثمارية يستفيد منها المواطن في الحصول على فرص عمل، إلى جانب دور هذا الإنفاق في تعزيز قوة ومتانة الاقتصاد الوطني، وأخيرًا الإنفاق الجاري الذي يذهب أيضًا إلى المواطن مباشرة من خلال دفع الرواتب ومعاشات التقاعد وغيرها من الأموال المباشرة الموجهة إلى المجتمع.

أضف إلى ذلك أنَّ الحكومة وبعد أن تخصص الإنفاق العام للدولة، تسعى لتوفير مبالغ أخرى لسداد الدين العام، والذي وصل لمستويات مرتفعة في ذروة الأزمة الاقتصادية، ولكن ولله الحمد وبفضل الحنكة الاقتصادية لجلالة السلطان المُفدى -نصره الله- وجهود الحكومة في ترشيد النفقات وإدارة موارد الدولة وفق سياسات حوكمة ونزاهة غير مسبوقة في عُمان، بجانب نجاح تنفيذ خطة التوازن المالي، فقد تمكنت السلطنة -ولله الحمد والمنّة- في تقليص حجم الدين العام إلى مستويات أقل عمَّا كانت عليه، رُغم أنها ما زالت مستويات "غير آمنة" كما أكدت وزارة المالية في بيانها، وهي ديون تحتاج لسنوات طويلة لسدادها. ألا يعلم من يتحدَّث عن الفائض المالي والوفورات التي تحقَّقت في الشهور الأخيرة فقط من العام 2022 أن الدين العام علينا تراجع من 70% من الناتج المحلي في العام 2020، ليصل إلى 43% في العام الجاري 2022، وسيصل إلى نحو 18.6 مليار ريال عُماني بنهاية عام 2023. إذن؛ نحن نتحدث عن مبالغ كبيرة تنوء بحملها اقتصادات أكبر من اقتصادنا، وليعلم من يتحدَّثون عن الاقتصاد بغير علمٍ، أن زيادة الدين المحلي يؤثر بشدة في التصنيف الائتماني للدولة، وهو عامل رئيس من عوامل جذب الاستثمارات وتنمية الاقتصاد الوطني.

ورغم هذا الدين العام الكبير، إلا أنَّ الحكومة قرَّرت مواصلة الإنفاق العام بأنواعه الثلاثة التي أشرنا إليها، دون أن تتأثر المُخصَّصات المالية لقطاعات مهمة وفاعلة في مسيرة نهضتنا؛ مثل: التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، وهذه الأخيرة تحظى باهتمام بالغ من لدن جلالة السلطان المعظم وحكومته الرشيدة، حتى إن الجهود تتواصل الآن لإصدار تشريعات جديدة تعزز من هذه الرعاية الاجتماعية، وسترى النور قريبًا بإذن الله.

إنني أعلمُ يقينًا حُسن نوايا البعض عند تناول الشأن العام، لكن الدول لا تنهض بحُسن النية ولا تواجه التحديات على قاعدة "ما أعرف"! بل تنهض وتقاوم الظروف الصعبة بإرادة صلبة من خلال الاستناد إلى معلومات صحيحة وطرح رؤى ووجهات نظر تتماشى مع الواقع، وليست من الخيال أو حتى من الفضاء!!

وفي الختام، أؤكد من منطلق عملي كصحفية ألتقي بالمسؤولين في إطار الشراكة بين وسائل الإعلام والحكومة، أن الجهود لا تتوقف، وأن حكومة صاحب الجلالة تعمل ليلَ نهارٍ من أجل أن ينعم المواطن بالعيش الكريم، وهو أمر لا يمكن نكرانه، حتى ولو فضَّل بعضُ الوزراء أو المسؤولين العمل بعيدًا عن أعين الإعلام، لكن في المقابل نتائج جهودهم يلمسها الجميع، وليس فقط العاملين في الصحافة والإعلام.. فلننتظر ما يحمله لنا العام 2023 من خير وتنمية شاملة مستدامة، ولنُحسن الظن بأن القادم أفضل فعلًا وليس كما يظن البعض ساخرًا، وأن عُمان تواصل مسيرتها الناهضة المتجددة خلف قيادة حكيمة تتفانى في توفير سُبل الحياة الآمنة والمستقرة لكل مواطن ومواطنة دون تفرقة أو تمييز.. والله من وراء القصد.