ماجد المرهون
كنا فيما سبق نُطلق مسمَّى مجنون على من ذهب عقله وفقد بصيرته التي ترشده للتصويب وإدراك كامل الصواب، وأتى بأقوال وأفعال تختلف تمامًا أو تتناقض إلى حد بعيد مع ماجرت عليه عادة المجتمع من حوله، وقد تستخدم كلمة مجنون على إنسان عاقل أو نعتقد أنه كذلك من خلال حركة وفعلة غير منطقية ومخالفة للمعقول والمقبول بحسب العرف المؤتلف عليه.
وربما تستخدم الكلمة أيضًا على سبيل الطرفة في التعليق على أمر ما كنوع من الاستعارة ونعت صاحبها بها وهو جنون مؤقت قرين بموقف يفتقر للرزانة ما يلبث أن يزول بزوال الحدث، كما تستخدم الكلمة في حالة التهور إزاء تصرف غير مسؤول كاد أن يودي بصاحبه أو بجماعة إلى دركات الهلاك، وعليه فنحن العقلاء نعتقد باستطاعتنا تقييم الموقف وإنزال الحكم على فاعله، وربما نكون مجانين في نظر من نجزم أنه مجنون أو جبناء في نظر من نعتقد أنه متهور؛ إذاً فالموضوع متعلق تعلقا عميقا بالفاعلية العقلية والاحتكام الظرفي الطويل أو القصير للفرد والذي يعززه شعور وهمي بالثقة بالنفس وقناعة مفرطة بصحة القيام بالفعل.
قد يكون ما ذُكر أعلاه معروفاً لدى معظم الناس وغير جديد ومتفق عليه وربما يختلف عليه البعض كذلك، ولكن إذا ما عدنا بالتاريخ إلى الوراء قليلاً أو كثيراً سنتمكن من حل إشكالية هذا الاختلاف وسنجد أن هناك الكثير من العظماء كما يطلق عليهم ومن القادة والزعماء الذين حكموا وسادوا في مرحلة من مراحل الزمان قد خالطتهم لوثات عقلية وارتكبوا فضائع يعزب بالعقل الرشيد اقترافها وينوؤ به استيعابها وتصديقها، إلا أنها كانت وقائع حقيقية وما منعتهم تلك اللوثة من الريادة السيادة والزيادة في عدد أنصارهم.
طبعاً لا يختلف أحد في تمييز المجنون المعروف بحسب الوعي العام وهو إنسان فاقد لملكة الإدراك والتمييز بين ما ينفعه وما يضره ويكون منعزلاً في معظم الأحيان وفي الغالب هو لايشكل خطرا أو ضررا على غيره باستثناء بعض الأمور البسيطة والتي يتدخل فيها المخ سريعاً بطريقة فطرية في توجيه أقرب للميكانيكية كنوع من أنواع غريزة البقاء ولا تنبني على النتائج أية تبعات لها صلة بالضمير، وفي أحيان نادرة يأتي المجنون بأخبار وحكم يستعصي على العاقل الحكيم الإتيان بها وهذا أمر عرف به الكثير عبر التاريخ الإنساني.
لا نستثني أحدًا من إمكانية الإصابة بأنواع كثيرة جدا من الذهان والعصاب والرهاب وقد يكون عالما فذا وطبيبا ناجحا ومهندسا معروفا ومعلما متميزا فضلاً عن الشخص العامّي، وربما حتى المصابين بها لا يعلمون عنها شيئًا، وكلهم يتعايشون مع المجتمع ويتعاطون معه بشكل ممتاز ولا تبدو عليهم أية ملامح ظاهرية وقد يلاحظ القلة بعض المؤشرات الدالة عليها في بعض المواقف من خلال إيماءات وتصرفات تبدو مختلفة أو غير لائقة أو لا تتناسب مع الموقف والحدث وغير متسقة مع المعتاد أو يشوبها شيء من الغرابة وتنطلي على عامة الناس والتي يستطيع رصدها وتقييمها خبراء العلوم النفسية ولكن العامة يعمدون إلى تهميشها وتكذيبها إزاء استبداد شعبيتهم الساحقة، وربما يخطئون في تقييمها "فما بين العبقرية والجنون شعرة".
يأتي الفارق اليوم مع ثورة عالم التواصل والتي يستخدمها الجميع تقريبا، فالمختل عقلياً في السابق كان يعرف على مستوى ضيق في منطقته أو في حارته ولم ينصَب له منبر إلا ما اتخذه لنفسه من مواقع بعيدة وزوايا عرف بتواجده بها، لذلك لم ينطلق صاروخيا إلى مستوى العالمية وإن استطاع لفعل، بينما نجد مختَّل اليوم قد نصَّب لنفسه منابر على كل المنصات وحتى غير الشائع منها، فيقوم بنشر هذاءاته وهلوساته للعالم وقد نلتمس له العذر نسبيا لطغيان اعتلاله على حسه الإدراكي وعدم المبالاة بردود الفعل والانعكاسات المترتبة على محتواه وبالطبع هذا العذر عندما نستبعد دور أهله وأولياء أمره، ولكن ما شأن العاقل الذي يودي بنفسه إلى ردى الحماقات وهو مدرك لها وبكل ماحوله شدة الإدراك ولا تفرط منه كل شاردة وواردة في المجتمع كونها تمس صميم عمله واستمراره، ويعي كل المحظورات والمحذورات ولديه قدرة هائلة على تقييم الثقافة السائدة بشكل تلقائي ثم يقع فيها ليغدق علينا الأعذار ويختمها بالاعتذار؟!
طغت حمى التسابق في مواقع التواصل لتحقيق المكاسب من خلال السعي وراء زيادة عدد المتابعين على الاحتكام لدور العقل وتعويمه في تقييم المحتوى المراد نشره، فبات البعض لا يبالي بردود الأفعال وماقد ينجم عما يقدمونه واختلط عليهم احترام الذات ورأي المجتمع وذريعة حرية التعبير، فيطالعنا أحدهم بين الحين والآخر صارخا أو لاهثا ثم فرحا بما أنزله الناس به من تعليقات وألقاب ينأى بنفسه عنها كل عاقل، فمن ذا الذي سيفرح بوصمة المنحوس وآخرون يتابهون بملايينهم لشراء عباءة تقطر عرقًا على ظهر لاعب كرة قدم ليرتقوا كأشجار القرع على أكتاف نجاحات الغير في محاولات لاقتسام الشهرة واللمعان في سماء التواصل ويشيح وجهه عن مجتمعه المحافظ باعتباره آخر همومه.
إلى مشاهيرنا في عالم التواصل الاجتماعي، اتقوا الله واعلموا أنكم ترسلون رسائل إلى جيل قادم يتابعكم الآن وربما ما تقومون به أو ما تقولونه يؤخذ بالاعتبار وقد تصلون إلى مستوى القدوة في مرحلة متقدمة، وكما تقتدي الناس بالصالحين فهناك من يقتدي بالفاسقين دون المقدرة على التمييز بين الخطأ والصواب في عالم اختلطت فيه المفاهيم، فأختاروا لأنفسكم أي القدوتين تريدون وتذكروا أنَّ التاريخ لا ينسى شيئاً ولا يرحم، فما يقدم ويبث اليوم سيُعاد عرضه بعد عشرات السنين وسيُشار له وصاحبه بالبنان.
إنَّ عظيم قوم عند قوم لئيم ولئيم قوم عند قوم عظيم، وإن حجة القوي هو الذي يعتذر نبرة أبتذلت ولم تعد تطرب فقد سئمنا كثرة الأخطاء كما سئمنا كثرة الأعذار، وإن لوثة عقل في مخ مجنون أرحم من لوثة جنون في مخ عاقل.