د. خالد بن حمد الغيلاني
khalidalgailni@gmail.com
@Khalidalgailani
صدق الشاعر العربي حين قال:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم // وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها // وتصغر في عين العظيم العظائم
فقطر هذا البلد العربي رغم حدوده الجغرافية ومساحته التي قد لا تصل لربع مساحة دول أخرى إلا أنه عظيم في مستوى طموح قادته، وأمنيات شعبه. بدا للبعض؛ بل للكثيرين حينما أرادت قطر الترشح لاستضافة كأس العالم أنَّها تنشد مستحيلًا، وتطلب أمرًا لا مجال لبلوغه، ولا طاقة لدول أكبر من قطر مساحة وسكانًا لتحقيقه، فكيف بقطر تحقق ذلك؟!
تقدمت قطر بملفها ورؤيتها، ملفا طموحا شغوفا، راعى كل اشتراطات الفيفا، ووضع كل عنصر من عناصر ملف الترشح موضع التنفيذ الحقيقي مركزا على الاستدامة والحفاظ على البيئة، منطلقًا من القيم والأخلاق، مؤكدًا على حق هذه المنطقة من العالم مع شغف أهلها بكرة القدم، وعشقهم لها، حقهم في تنظيم بطولة كأس العالم.
لم يترك الملف القطري لا شاردة ولا واردة؛ بل على العكس صاحب الملف الكثير من نقاط التميز فالوقت مناسب مع مختلف دول العالم، والملاعب متقاربة مما يتيح فرصة التنقل بينها بيسر وسهولة، وهي مكيفة للتعامل مع طبيعة المنطقة في شهر يوليو الذي ينظم فيه كأس العالم كما درجت العادة.
كان ملف قطر رائعاً للغاية، ورغم قوة المنافسين لها؛ إلا أن السبق والفوز كان حليفها، أعلنها رئيس الفيفا مدوية في القاعة، إنها قطر؛ فزّت قلوب المحبين سعادة وسرورا، وقلوب الحاقدين على كل ما هو عربي إسلامي غمًّا وكيدا، حقد ظهر على السطح عبر إعلام مستأجر مسموم، وتصريحات هي الخبل والهبل في صور متعددة.
شحذ المحبون همم المحبة، وأضاءوا مشاعل النور، وسنّ المبغضون سيوف الخزي التي تكسرت وتحطمت أمام إرادة وعزم القطريين أميرا وشعبا، ومعهم كل حناجر العرب والمسلمين والعالم الحر النقي في كل بقاع العالم.
بدأت قطر عملها المخطط له والمنظم في كل الاتجاهات، واصلت قطر الليل بالنهار، ظهرت كثير من التحديات، تقلبت أسعار النفط، عانى العالم من أزمة اقتصادية خانقة، ظهر كورونا واشتد وطيس حربه، لكنها قطر العزيمة التي تكسرت على شواطئ مجدها كل تلك التحديات، ومخرت سفن التحدي عباب كل الإشكالات، فما أن تظهر مشكلة حتى ينبري الليث الهمام تميم المجد ومن خلفه أمير والد صاحب فكر وبُعد نظر؛ فهذا شبل من أسد، وأم حكيمة تربت في ميدان السياسة وخبرت دهاليز الحكم، وإخوة يشتد بهم العضد، ويقوى الساعد، وشعب تميمي عربي أصيل المنبت، كريم الجدود.
حضر السياسون والرياضيون والإعلاميون والعشاق، ومجانين كرة القدم من كل بقاع الأرض ورغم مساحة الدوحة، لكن القلوب اتسعت وتباشرت، فتمايس سوق واقف، وزغرد الكورنيش، وعزف حي كتارا لحن بشر ومحبة، فردت الوسيل بإيقاع عربي أصيل، وعاشت قطر ملحمة لن ينساها تاريخ البشرية، وسيبقى صداها مترددًا في أروقة الفيفا، وعبر منصات الرياضيين.
ومما يجب ذكره في هذا المقام المتسامي بقطر وأيقونة المجد فيها، وبأنشودة الجمال والجلال (شوميله) نعم والله (شيخ تنومس لابته وقفاته شوميله ودينله بالوفاء والطاعة، وسمعيله فالمجد هو عزوته وذراعه).
يجب أن نذكر عددًا مما تحقق من منجزات في مونديال قطر 2022؛ وأول ما يجب ذكره؛ أن العالم تعرف على ثقافتنا العربية والإسلامية على حقيقتها، فكان البشر والترحاب، ودماثة الخلق في التعامل، وكرم الضيافة والوفادة، والحفظ للعادات والتقاليد والقيم، وأكدت قطر أن قيمنا أعظم وأجل من أن تنتهك في شهر، وحارب تميمها وشعبها كل أمر منتهك للحرمات والأخلاق، فلا حرية مع سوء خلق، ولا تسامح مع تصرف مشين، ولا مكان لأشباه الرجال.
ثم أثبتت قطر بعروبتها وإسلامها أننا قادرون متمكنون من تنظيم مثل هذه الأحداث بقدرة فذة، وإنجاز غير مسبوق، وتنظيم يسير كآلة تدار عن بعد، وأن الدقة ورسم كل الأمور واحتساب كل التوقعات أمر نحن فيه أهل السبق.
بنية تحتية أنجزتها قطر ستكون بمثابة قيمة مضافة لها، وستمثل قطر على المدى القريب والبعيد قبلة للسياح من كل بقاع الأرض، لا يوجد أحد اليوم لا يعلم قطر ولا يعرف أين هي؟.
وحدة عربية وتكاتف وتعاون أكدتها الجماهير العربية التي اكتظت بها قطر، وساعد على توثيقها الحضور المغربي الذي شرفنا جميعاً، فالجزائري غدا يمنيًا، والتونسي غدا مصرياً، والخليجي غدا مغاربيا، والعربي عربي ينشد بثبات عزم وصدق عزيمة (بلاد العرب أوطاني).
تعرف العالم على فنوننا وحضارتنا في قالب يظهر أننا أمة تليدة مجيدة، وأننا دعاة سلام، وأننا أصحاب فكر وإبداع، وأننا مثقفون متمكنون، وأننا نستوعب العالم كله بما لدينا من إرث عظيم.
ثم أن يتوشح اللاعب ميسي بعباءة عربية (بشت) فإن لهذا التصرف قيمة عظيمة، فالعربي لا يقدم عباءته إلا لمن أنجز أمرا عظيما، وله مكانة وهي رسالة للعالم كله أننا أهل نخوة وشهامة، وأننا نمد كفوفنا بالمحبة والسلام، وهي مفخرة للاعب عظيم أن يتوشح بشتا عربيا مطرزا بخيوط الأنفة والعزة والمجد والسؤدد.
واليوم والجميع يغادر الدوحة، يُغادرها وهو على يقين أن العرب كل العرب رسل محبة وسلام، وأن الدوحة قبلة للجميع وتتسع للجميع وستبقى دوحة الجميع.
سيبقى هذا الحدث حديث العالم والتاريخ، وستكون هذه النسخة الأعظم دوما وأبدا، وستفتح الباب على مصراعيه لملفات عربية أخرى لاستضافة كأس العالم.
وثم يا أهلنا في قطر أميرًا وشعبًا هنيئًا لكم من رُبى عُمان المجد ومن سلطانها وشعبها، وهنئيًا لنا بكم، واستمروا في ترديد "شوميله".