السعودية.. العملاق القادم

 

علي بن مسعود المعشني

ali95312606@gmail.com

الرؤى الاقتصادية أصبحت من لزوميات الدولة الحديثة المعاصرة، فبفضلها تستبصر الدولة المستقبل وتستدعيه لتعيشه قبل أوانه وتختصر الزمن والتكاليف في تنميتها، وتحدد الأولويات من مُفرداتها، لتختار بنفسها مكانتها بين الأمم.

أقطار الخليج العربية وضعت كل منها رؤيتها الاقتصادية المناسبة لممكناتها وطموحها، في محاولة منها لتكييف التوافق ما بين المُعطيات الطبيعية والبشرية، ولكن مايبصم هذه الرؤى عادة بالفشل الكلي أو الجزئي فيما مضى من الزمن، هو تعلقها بالطموح "ورقيًا" وبمصير النفط وأسعاره العالمية المُتذبذبة "واقعيًا"، وهنا يأتي الرهان على مصدر ريعي نستخرجه، لكننا لا ننتجه ولا نستفيد من أرباح عوائد صناعته، لهذا كانت الرؤى والخطط البعيدة أشبه بالقُمار والضرب في تكهنات غيبية مُستقبلية لا نمتلك مفاتيحها ولا نقرر مصيرها. يمكنني الجزم- شخصيًا- بأنَّ الرؤية الحقيقية في المنطقة والتي يمكن رؤيتها على الواقع بلا أدنى شك هي رؤية المملكة العربية السعودية 2030، والتي قدمت التنوع الاقتصادي على غيره من مكونات الرؤية وجعلت منه الجذر الحقيقي لتحقيق الرؤية متكاملة.

سرُ رهاني على نجاح "رؤية 2030" في المملكة- وفق رصدي ومتابعتي- وجود صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان على رأسها أولًا، وتهيئة وتأهيل العقول القادرة على فهم الرؤية وتنفيذها ثانيًا، واشتغال المملكة على ممكناتها الحقيقية الهائلة، بعيدًا عن الطموح والأحلام الوردية.

رؤية المملكة ليست رؤية اقتصادية تنموية شاملة فحسب؛ بل هوية ونهضة جديدة وتحول تاريخي يقوده أمير شاب وطَمُوح، قرر في لحظة تاريخية إعادة هيكلة وإنتاج بلده وفق ممكناتها ومكانتها "الشاغرة" بين الأمم، فتخطّى المستحيل وتجاسر على المعوقات من الموروث الإداري والاجتماعي، واستورد وحاكى النماذج المُشرقة في تحقيق الرؤى من الشرق والغرب، وجعل مفصل ومحور هذه الرؤية وركنها الحصين هو مكافحة الفساد أولًا، ورفع شعارًا فعليًا على الأرض فحواه: "لا كبير على المُساءلة". لن أخوض في أرقام وتفاصيل الرؤية لأنها تحتاج إلى مجلدات للحديث عنها، إضافة إلى إتاحتها على موقع الرؤية الرسمي لمن رغب في الاستيضاح والمعرفة.. لكنني سأتناولها من جوانب أخرى كمُراقبٍ ومتابعٍ ثم أضعُ رؤيتي الخاصة عليها والتي لا أُلزم بها أحدًا. إذا توفر القرار السياسي بالتزامن مع الإرادة تحقق التغيير الإيجابي، ووُلِدَت "المعجزات" وتناسلت المُمكنات تِباعًا، وهذا ما تحقق على أرض المملكة اليوم بزعامة الأمير الشاب صاحب السُّمو الملكي محمد بن سلمان، وفي عهد والده خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود.

أعتقد أنَّ أهم عنصر في عناصر العهد الجديد في المملكة هو التخلص من العاطفة السياسية والتسلح بالواقعية والعقلانية السياسية بكل دقيق تفاصيلهما، وليس من اليسير على عهد وراثي أو نظام سياسي، تجاوُز موروث بسلاسة وإحلال البديل دون وجود القرار السياسي الشجاع والجسارة على مواجهة المعوقات وتحمل كافة التبعات والتعامل معها. المملكة اليوم لم تعد تنشغل أو يعنيها وصفها من عدمه بالشقيقة الكُبرى إقليميًا أو عربيًا كما كان سابقًا؛ بل تخطّت ذلك وأصبحت تناجي توصيفها بالعملاق الكوني القادم، هذا العملاق الذي استنهض نفسه ووظَّف قدراته ليتحول إلى قائد، ومن رقم في المعادلة إلى المعادلة نفسها، على قاعدة علم النفس التي تقول: "كل إنسان في حقيقته اثنان، هو، وما يمكن أن يكون".

من يتابع الحراك السياسي للمملكة اليوم يجد أنها تخاطب الشق الثاني من القاعدة "ما يمكن أن تكون"، لهذا رأينا الرياض وقد أصبحت محجًا سياسيًا لجميع الملل والأديان والنحل لكسب الرضا ولركوب شيء من مفردات الرؤية قبل انطلاق القطار والذي لن ينتظر المتخاذلين، فهؤلاء "الحجيج" بلا شك يقرأون المستقبل ويستشرفونه، ويدركون أن رؤية "المملكة 2030" ليست ضجيجًا مُفتعلًا؛ بل مُستقبلًا عالميًا يتشكل في جغرافيا جديدة.

الرؤى عادة- ما لم يدعمها واقع- عبارة عن أحلام، قد يتحقق منها البعض وقد لا يتحقق، لهذا يُسميها البعض "أضغاث أحلام" إذا كانت منزوعة عن واقعها، ولكن ما أراه شخصيًا في رؤية المملكة العربية السعودية 2030 يمكنني وصفه بأنه ثورة على الواقع وتوظيف كافة "المُمكِّنات" لتحقيق واقع آخر يليق بالمملكة ومكانتها الحقيقية، لتتحول من دولة عُرفت بالمقدسات والنفط ومشتقاته إلى دولة تصنع التاريخ وتنعم باقتصاد إنتاجي متنوع يضاهي مجموعة الدول الرائدة في العالم ويقود السياسة العالمية ويرسم ملامحها باقتدار.

قبل اللقاء: وما استعصى على قوم منال // إذا الإقدام كان لهم ركابا

وبالشكر تدوم النعم.