د. عبدالله باحجاج
لا يُمكن تصور الدولة العمانية المعاصرة دون مفهومها الاجتماعي، ليس لأنَّها تأسست منذ عهد السلطان الراحل قابوس بن سعيد- رحمه الله- على المفهوم الاجتماعي، وإنما لثقل حمولتها الاجتماعية/ الديموغرافية، وهذه الديموغرافيا/ السكان، ركنٌ أصيلٌ من الأركان الأساسية للدولة، وأيَّة محاولة- حتى لو كانت صوتية مثل ما سمعناه إبان انهيار الأسعار النفطية، وتجدَدَ صوتها الآن- لاستمرارية تأثير البعد الاجتماعي على مالية الدولة، تكون قاصرة عن فهم طبيعة ووزن المكون الديموغرافي في الدولة العُمانية- التاريخية والمُعاصرة- فلا يُمكن أن تكون الليبرالية الخيار الأوحد لمفهوم الدولة، فكيف بالنيوليبرالية التي قُلنا عنها سابقاً إنها الوجه القبيح لليبرالية؟ فقدرُ الدولة العمانية أن يكون المفهوم الاجتماعي أحد ثوابتها المُقدسة.
ولا ينبغي هنا أن يُفهم أننا نطالب بعودة الإنفاق العام كما كان قبل يناير 2020؛ بل توجيهه لخدمة الثلاثية المستدامة؛ وهي: المصالح السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهذه الثلاثية حاملةُ الاستقرار وديمومته، مهما تعاقبت الأزمنة السياسية وتغيرت المفاهيم الاقتصادية، وبلادنا لن تكون خارج النماذج العالمية إذا ما حدَّثت مفهومها الاجتماعي، وجعلته حاكمًا لكل خياراتها؛ فهناك مثلًا النموذج الألماني الاجتماعي- قد تناولناه سابقًا- وهو لم يحُل دون أن تكون ألمانيا من القوى الاقتصادية العالمية المُؤثرة ذات النهج الرأسمالي الاجتماعي.
وقد شهدنا الأسبوع الماضي عودة التصريحات المُتضاربة، لكن الاختلاف في النسخة الجديدة، أنَّ أنصار جنوح المفهوم الليبرالي لا يستندون إلى حجة يمكن أن يمرروا أفكارهم لعدم توفر أزمة يستغلونها، كما فعلوا إبان الأزمة النفطية، كل فريق يعكس خلفياته الفكرية، وهذا من المسائل الطبيعية؛ بل والمتوقعة. الأهم هنا، عدم تأثر صناع القرار بطغيان الفكر الليبرالي/ النيوليبرالي الذي يقف متشددًا ضد مفهوم الدولة الاجتماعية، ففي الوقت الذي تتزايد فيه الفوائض المالية في موازنة الدولة، وتصاعد نسبة الإيرادات غير الحكومية في الموازنة، وتوجيه عاهل البلاد- حفظه الله ورعاه- بضرورة استكمال كل المشاريع التنموية في الخطة العاشرة (2021- 2025)، وإجماع المسؤولين والخبراء على أن مالية الدولة في وضع مُريح وآمن، يخرج مسؤول بمجلس الدولة ليضرب التفاؤل بتصريح يقول فيه "إنَّ المالية العامة للدولة لا تزال تعاني من أعباء تفوق طاقتها". التصريح لا يُعبر عن فكر الدولة، وإنما عن خلفية لها امتدادات فكرية، ويتناغم مع المطالب الجديدة لصندوق النقد الدولي الرامية لفرض ضرائب أو رسوم على خدمات أساسية كالتعليم.. إلخ.
ولو أردنا أن نخضع التصريح للمنطق السياسي لعقل الدولة، ومجلس الدولة أحد مكوناته، فهذا التصريح كان ينبغي أن يظل ضمن النقاشات الداخلية للمجلس لا أن يخرج للرأي العام؛ لأنه قد يُبدد التفاؤل الذي يتحقق بعد إعادة وزارة المالية تسعير رسوم الخدمات الحكومية، والدور المرتقب لهذه التسعيرة الجديدة في انتعاش قطاع الخدمات، وترقُّب المجتمع للخطوة المُقبلة التي يتوقعها وهي إعادة النظر في سياسات وقوانين اتُخذت تحت وطأة أزمتي النفط وكورونا. واللافت أن المسؤول صرح سابقًا بثقل المرتبات على موازنة الدولة، فما كان إلا أن شهدنا موجة تقاعدات إجبارية في صفوف الآلاف من الموظفين الحكوميين.
من هنا يجب التوقف عند هذا التصريح الذي يمس جوهر التفاؤل؛ لأنه صدر من رئيس اللجنة الاقتصادية بمجلس الدولة، فعلى ماذا يُعزي تصريحه حول بقاء مُعاناة المالية العامة؟ لا يمكن أن يحمل التصريح هذه المرة الأبعاد الاجتماعية، فقد تم ترشيقها إلى وزن الريشة بتقليصٍ شمل كذلك خفض الحد الأدنى للأجور إلى 325 ريالًا، واصطباغ مرحلة التوظيف بالعقود المُحددة زمنيًا "العقود المُؤقتة سابقًا"؛ مما يجعل من سيكولوجية الجيل الجديد في حالة قلق وعدم استقرار اجتماعي، وكذلك فرض ضرائب ورسوم، بصورة غير عقلانية، ومثال ذلك نموذج رسم بـ400 ريال لمدة سنتين، وقد تم تغييره مؤخراً إلى 10 ريالات لمدة خمس سنوات، ولنتأمل في النسبة والتناسب بين فرض الرسم وتغييره، ماذا يعكس من خلفيات؟
ولم يجد رئيس اللجنة الاقتصادية في مجلس الدولة في البعد الاجتماعي ما يخفف من معاناة المالية للدولة- على حد قوله- وإذا ما حاولنا أن نتأمل تصريحه من منظور مختلف، فلربما نجده يقصد هذه المرة أبعادًا أخرى غير اجتماعية، رغم أن تصريحاته السابقة لا تجلعنا نُأوِل أو نُفسِّر تصريحه الجديد خارج البُعد الاجتماعي. وهنا نجتهد في قراءة أخرى لهذا التصريح، فلربما يتحدث عن مُعاناة المالية من نواحي هيكلية الموازنة، والحصص، وكذلك ثقل الجهاز الإداري للدولة، رغم ما طرأ عليه من إصلاحات مُؤخرًا، وتلكُم تعد مناطق إصلاحية مطلوبة لذاتها، بصرف النظر عن حقبة الفوائض المالية، والمشاريع الإنتاجية الواعدة التي أصبح بعضها يضخ ماليًا في موازنة الدولة كمشاريع الأمونيا الخضراء، أو تلك على وشك ضخ مساهمتها قريبا في موازنة الدولة، كمصفاة الدقم التي بلغت نسبة الإنجاز الكلي فيها 96% حتى نهاية نوفمبر 2022، أو الطموحات التي أصبحت الآن مشروعة وواعدة في تأسيس اقتصاد وطني من مصادر مُستدامة وآمنة للبيئة، كالاقتصاد الأخضر الذي يُعد بمثابة النفط للعالم الجديد.
ونخرج مما سبق، وما ذكر فيه ليس إلا القليل من الكثير الذي يصنع التفاؤل بمستقبل بلادنا المالي والاقتصادي، أنه لا مجال للتشاؤم، ولا ينبغي السماح به، ولن يَنفَذ للأسماع والقناعات الاجتماعية، قد ينجح إبان الأزمتين النفطية وكورونا، وضغوط صندوق النقد الدولي أثناء الأزمة النفطية ونزول الأسعار النفطية إلى 10 دولارات للبرميل.
المطلوب الآن إعادة صناعة التفاؤل عبر إصلاح بعض السياسات والقوانين التي اتخذت إبان أزمتي النفط وكورونا، والإسراع في الوقت نفسه بدفع عجلة المشاريع الإنتاجية البديلة للنفط وفق مرجعية انعكاساتها المباشرة على المجتمع، وبالذات على قضية الباحثين عن عمل، وتحسين مستويات المعيشة.
وأخيرًا، نقترح إعادة النظر في هيكلية اللجنة الاقتصادية لتكن كذلك اجتماعية، بتركيبة ثلاثية للاعتداد بمفهوم الدولة الاجتماعية في رسم السياسات المالية والاقتصادية، والإنفاق الاجتماعي، ودون هذا الإنفاق الذي يضمن الحياة الكريمة للمواطنين لا يمكن الحديث عن الدور الاجتماعي للدولة، وما يدور من حديث عن حماية الفئات الأكثر تضررًا، يدخل في سياق المسار الليبيرالي/ النيوليبرالي، وهذا لا يصلح في بلد كسلطنة عمان، وإذا لم تنفق الحكومة على المجتمع كما ينبغي، فمن البديل؟ لا يمكن الرهان على القطاع الخاص ولا على المجتمع المدني، وهما- وخاصة الأخير- يحتاج إلى فترة زمنية طويلة بشرط توفر شروط موضوعية لشراكتهما مع الحكومة.