رجل منهك للغاية

 

أم كلثوم الفارسي

للرجل القوام بالحكمة والأخلاق والاتزان سيد البيت وخليفة الأرض شريك الحياة ورفيق الدرب وسند القلب.. للرجل الذي يتوسد الآلة الحاسبة ليتأكد بأنَّ ما بقي من الراتب يكفي متطلبات العائلة إلى نهاية الشهر..

للرجل الذي استسلم مُؤخرا لفكرة العمل كمندوب توصيل في أحد التطبيقات ليُوفر قيمة البترول التي حرقت الجيب والقلب معًا!! للرجال الذين يودعون أحلامهم البنوك المحلية قرضا طويل الأمد ينتهي العمر ولا ينتهي!! للرجال الذين يخلعون وجوههم القديمة وملامحهم السعيدة عند كل موعد رحيل لعمل بعيد يأخذهم من دفء البيت وضحكات الأبناء وصوت دعاء الأمهات!! لرجل اليوم المنهك في نص اجتماعي متهالك لا يمت لطبيعته بصلة، منجرف بلا وعي خلف صورة نمطية زائفة تجعل منه كائنًا مشتتًا بين ما يُريده هو وبين ما يريدونه هم!! للرجال الذين اختاروا طوعًا تحويلهم إلى جهاز صراف آلي يخدم كل شيء إلا رجولتهم فإذا فرغت جيوبه بانت عيوبه!!

لكل هؤلاء أكتب إننا معشر النساء نتلمس حجم الضغط النفسي الذي يعيشه الرجل جرّاء التوقعات المفروضة عليهم؛ فالرجل يتعرض لموجات عنيفة من التنميط الاجتماعي منذ سنواته الأولى في الحياة، وأول هذا التنميط أنت رجل لا تبكي!! حتى نتج عن ذلك رجولة مكبوتة انعكست آثارها على هيئة تشويه واضح للأنوثة؛ فالمرأة اليوم لا تشعر بأنوثتها؛ لأنَّ القادر على أن يمنحها ذلك الشعور هو الرجل الحقيقي الذي للأسف تنازل عن الكثير من أدواره الحقيقية في الحياة مما اضطر المرأة لأن تقوم بها فاختلفت المواقف وتبدلت الأدوار وضاعت الأسر، وما نراه اليوم من أصوات نسوية تعزز التناقض لا التكامل مع الرجل ما هي إلا مؤشر واضح لظاهرة الرجل المنهك.

ماذا أصاب الرجولة؟ فالغيرة المحمودة لدى الشباب على أخواتهم لم تعُد تُبشر بخير؛ بل هي ناقوس خطر يدق في مجتمعنا، فأنا بحكم عملي في المجال المدرسي لم أعد استقبل الأخ دون سن 30 كولي أمر للطالبة، فمن خلال ملاحظاتي وجدت أنَّ الأخ يعلم بانحراف أخته أو خطأها ولا يُحرك ساكنًا؛ بل على العكس يدافع عنها ويتستر عليها، ولا يُبدي غضبًا ولا استنكارًا لكل ما يسمع، وأحيانًا كثيرة أكتشفُ أن كلًا منهما يتستر على الآخر أمام الأم أو الأب، مما يدفعها إلى التمادي ويدفعه للانسحاب، وكأن بينهما مصالح متبادلة تجعله يتخلى عن الكثير من رجولته التي من أدوارها مسؤوليته أمام الله عن هذه الأخت.

وما نراه اليوم من جرائم قتل في حق النساء ما هو إلا مؤشر آخر على ضعف الرجولة؛ فالرجل الحقيقي إنسان في المقام الأول، والإنسان لا يقبل على نفسه أن يلاحق شخصًا لا يعيره اهتمامًا، أو يرفضه رجل اليوم، برغم كل التفوق النسائي عليه في كثير من المجالات، فهو لا يقبل أن ترفضه المرأة، وكأنَّ حرية الاختيار حِيزت له وحده، ويجب أن يعلم الرجل أن للمرأة الحق في قبوله أو رفضه قبل الزواج أو بعده، وهذا لا ينقص منه شيئًا، لكن الإشكالية الحقيقية تتمثل في أنَّ الرجل يرى نفسه ضحيّةً يعيش تهميشًا أسريًا واستهلاكًا ماديًا وتشتتًا عاطفيًا وحياة عائمة على وجه المتطلبات المجتمعية وهروبًا من المسؤوليات، والنتيجة ردات أفعال مبالغ فيها، ولا تتناسب مع المواقف، وتفتقد الحكمة والاتزان في أحيانٍ كثيرة.

كيف تحوَّل الرجل من قائدٍ في المجالس يحل ويربط وينصح ويُصلح إلى كائن غريب عن نفسه؟ كيف أصبح الرجل عاجزًا عن الوقوف على مشاكل أسرته وكل ما يجيده هو الهروب فقط؟ يهرب من واقعه إلى علاقات عاطفية جديدة تشعره بقيمته التي يدفعها من جيبه في غالب الأحيان، أو إلى لعبة إلكترونية يغرق فيها معظم وقته، وجل اهتمامه موجه إلى المستقبل، سعار مجنون لجني المال وتحقيق الثراء، لم لا وهو الإطار الوحيد للسعادة، كما أخبره المجتمع؛ فالرجل "لا يعيبه إلا جيبه"!

رجل اليوم في أمسِّ الحاجة إلى أن يعود إلى نفسه، ويحترم طبيعته، ولا يتنازل عن أدواره، فإذا عرف الإنسان نفسه، عرف منزلته وأعطاها حقها في الواجبات قبل الحقوق، وما أحوجنا- نحن النساء- للرجال الحقيقيين كي نعيش في عالم أفضل، ولأسر أكثر سعادة وحياة أكثر توازنًا.

وما نقول إلا كما قال الفيلسوف مصطفى محمود: "إذا أردتَ امرأة كخديجة فكن رجلًا كمحمدٍ".

تعليق عبر الفيس بوك