الدبلوماسية العُمانية والواقعية السياسية (2)

 

د. إسماعيل بن صالح الأغبري

اعتبار السلام خيارًا أساسيًا (استراتيجيًا):

دينُ الدولة الإسلام، كما نصَّ على ذلك النظام الأساسي للدولة في المادة الثانية (دين الدولة الإسلام والشريعة الإسلامية هي أساس التشريع)؛ وحيث إن الإسلام دين السلام مصداقًا لقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً"، ومن أسماء الله السلام، وجعل من أسماء الآخرة دار السلام، ومن أبوابها باب السلام، و"تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ".

وحبب الإسلام عند التلاقي البدء بالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأوجب رد السلام بعبارة وعليكم السلام، واستحسن زيادة ورحمة الله وبركاته، ومن الفطرة التي فُطر عليها أهل عمان نزعة السلام والركون إليه فإنَّ المنهج السياسي في عمان قائم على اعتبار خيار السلام خيارا "استراتيجيًا" يجب الانحياز إليه، وليس خيارًا "تكتيكيًا"؛ ولذلك فإنَّ هذا الخيار ميَّز الدبلوماسية العمانية عن كثير من الدول، فأثمر عدم تأجيج سلطنة عمان الفتن، وتجنبها تسعير بؤر التوتر، فضلًا عن عدم خوضها أو مشاركتها في خوض الحروب الإقليمية بين الدول أو الحروب داخل الدولة الواحدة بسبب التحزبات والعقائد "الأيديدلوجيات"، كما نأت عُمان بنفسها عن الدخول في أي تحالفات يُشتَمُ منها أو من أهدافها الدخول في حروب لا طائل منها. ومن الأمثلة على ذلك ما وقع من اقتتال اليمنيين الشماليين والجنوبيين فيما بينهم عام 1994م أيام الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، فإن سلطنة عمان لم تؤجج صراعهم لا بوسائل إعلامها كحرب نفسية منها عليهم، ولا عن طريق مد طرف بسلاح ومعدات لتقويته على الآخر. وهذا الموقف العماني يُعد منقبة من مناقب السياسة والدبلوماسية العمانية؛ إذ كان بإمكانها الاصطفاف مع حملة السلاح أو إحدى الجماعات اليمنية، إما تشفيًا وانتقامًا للتدخل السابق من قبل الماركسيين في عُمان، أو رغبة منها في تفتيت اليمن لتعود عمان في الرتبة الثانية مساحة في الجزيرة العربية، أو لبقاء اليمن ضعيفًا من حيث القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية، لكن سلطنة عمان ترفّعت عن ذلك لأن تدخلها ينافي خيارها السلام خيارًا استراتيجيًا.

هذا الخيار متأصل في السياسة العمانية، وليس وليد لحظات أو لمجرد جوار، وليس فقد تم اتخاذه مع الأشقاء في اليمن بدليل أن سلطنة عمان نأت بنفسها عن الاصطفاف العلني مع أي من العراق أو إيران خلال الحرب المندلعة بينهما منذ عام 1980 والتي استمرت 8 سنوات؛ بل احتفظت بعلاقات حسنة مع الطرفين أيام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين والمرشد الروحي الإيراني الراحل آية الله الخميني.

إنَّ هذا المنهج مغايرٌ لمنهج دول عربية أعلنت اصطفافها مع صدام حسين وهي الأكثر وأمدته بعشرات العشرات من المليارات، وأبدت تأييدها لصدام حسين عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، مما ساهم في تأخير وصول البلدين إلى حل وسط، وإطالة الحرب بينهما، وسقوط أكثر من مليون قتيل، إضافة إلى مئات الآلاف من الجرحى، وتدمير البُنى التحتية للبلدين، واستنزاف أموال كثيرة للدول المُعلنة تأييدها لصدام حسين، وقليل من الدول العربية كانت مؤيدة علانية لإيران في بلاد الشام وشمال أفريقيا، أو ذات علاقات مميزة معها مثل سوريا وليبيا، وذلك في إطار الصراعات بين الدول ذات الشعارات القومية، فبين حزب البعث في سوريا وحزب البعث في العراق مناكفات وعداوات، أما العقيد الليبي الراحل معمر القذافي فهو مزاجي السياسة.

وأسفرت الدبلوماسية العمانية بفضل عدم إعلانها الدعم للعراق أو إيران ثمارًا سياسية ودبلوماسية وأمنية، فمن خلال ذلك تمكنت من الاحتفاظ بعلاقات دبلوماسية بين البلدين، وكذلك حازت مواقفها ثقة البلدين مما يعني أنها مؤهلة للتقريب بين الدولتين المتحاربتين، إضافة إلى رضا الشعبين عن السياسة العمانية والشعب العماني؛ إذ جميعهما يَعد الشعب العماني صديقًا له.

إنَّ هذا المبدأ جنَّب سلطنة عُمان ردات فعل أحد الطرفين إن تغلب على الآخر، ذلك أنَّه لو تغلب صدام حسين على إيران فإن ردات فعله تجاه سلطنة عمان قد تكون سلبية جدًا، حال وقفت سلطنة عمان مؤيدة وداعمة لإيران، ولو تغلبت إيران عليه وكانت عُمان تقف معه، فإنَّ إيران قد تفكر في الانتقام من عمان أو تقلص التعاون الأمني، خاصة فيما يتعلق بمضيق هرمز الحيوي.

ومن الأمثلة الأخرى على لزوم سلطنة عمان خيار السلام، موقفها من الحرب في اليمن المُندلعة بين الفرقاء منذ عام 2015 تقريبًا، وكل يدّعي أحقيته أو مظلوميته من النظام السابق القائم أيام الرئيس علي عبد الله صالح، وساد أنصار الله "الحوثيون" على صنعاء عاصمة اليمن، وخرج الرئيس اليمني السابق عبد ربه منصور هادي متخفيًا عن الأنظار، فكانت عُمان الملاذ الأول والمعبر الآمن له للمكان الذي اختاره مقرًا مؤقتًا خارج اليمن، يُدير منه الشأن اليمني، وكان خروجه بالزي العُماني بعد إجراء الفحوصات الطبية للتأكد من سلامته وصحته. ولم تستغل عُمان فرصة وجود الرئيس اليمني على أراضيها والضائقة الشديدة التي هو عليها، ولم تمارس تعسفًا من أجل الحصول منه على تنازلات أو مكاسب أو تمنعه من اختيار البلاد التي مال إليها، وهذه منقبة من مناقب السياسة والدبلوماسية العمانية.

ونتيجة هذا الصراع الداخلي بين اليمنيين على أسس دينية وقومية وانفصالية، غاصت أقدام دول عدة في هذا الصراع ومنها التحالف العربي، الذي شارك في الحرب مباشرة بشريًا ولوجستيًا وعسكريًا، إضافة إلى الدعم اللوجستي الذي تقدمه دول غربية ومنها الولايات المتحدة الأمريكية عن طريق الأقمار الصناعية، وتحديد تحركات الحوثيين أو تزويد طائرات قوات التحالف بالوقود في الجو.

رأي الدبلوماسية العمانية تمثل في عدم الانخراط في الحرب المندلعة في اليمن، وفي المقابل تضافر الجهود من أجل وقف الاقتتال الداخلي، لأسباب؛ منها أن التدخل العسكري لن يكون إلا سببًا من أسباب إطالة الأزمة بين اليمنيين أنفسهم، وأن السياسة في اليمن تقوم على أحزاب وتوجهات قومية ودينية وناصرية واشتراكية، فمعالجة ما يجري بينهم لا بُد أن يكون بحذر وليس بالدخول في الحرب.

ترجمت عُمان ذلك عمليًا باستضافتها مرارًا جولات مباحثات ومفاوضات الأطراف اليمنية من أجل وقف الحرب، وتنقلت دبلوماسيتها بين الأطراف اليمنية داخل اليمن، إلا أنه للأسف الشديد توجد عند بعض الأطراف غير اليمنية حساسية مفرطة من أي نجاح يُحسب للدبلوماسية العمانية، لأنها تعتقد أن نجاح الدبلوماسية العمانية فيه إثبات لما اتخذته عمان من مبدأ عدم الدخول في الحرب، مما يجعلها محط أنظار من كان من قبل متشككًا فيها، بينما تريد سلطنة عُمان أن يعم السلام اليمن وجواره على حد سواء، ولا إشكال لديها على أي من الدول إذا أمكن تحققه بدليل أنها باركت استضافة دولة الكويت لجولة طويلة من المفاوضات بين الأطراف اليمنية في شهر إبريل من عام 2016، كما إنها رحبت بما تقوم به الأردن من محاولة طي صفحة الحرب في اليمن باستضافتها الأطراف اليمنية عام 2019.

سلطنة عمان تقرأ جيدًا ما وقع للعثمانيين عندما تدخلوا في اليمن، وما لقيته القوات البريطانية، وما حلَّ بقوات جمال عبد الناصر عندما وطأت أقدام جيشه اليمن، فوعورة اليمن جغرافيًا، وطبيعة الإنسان اليمني المسلح في معظمه والرافض لأي قوة عسكرية تنزل بأرضه تمنع التدخل عسكريًا، إضافة إلى أن الحرب ذات أضرار اجتماعية واقتصادية وإنسانية، وسلطنة عمان تتجنب مواقع النزاعات كما إنها اعتمدت على استقراء الحوادث المتلاحقة للحروب، فمن السهل الدخول فيها بأوامر وتوجيهات كالحرب العراقية الإيرانية، لكن من الصعب الخروج منها، ومن اليسير الظن انتهاء الحرب في أسابيع أو شهور؛ لأن متخذ قرار البدء بها أطراف معدودة ولكن بعد خوض غمارها  تكون أطرافها لا حصر لهم، ولكل منهم مآرب، يأبى إيقافها.

مضى على حرب اليمن الآن ما يقرب من الثماني سنوات، وكانت التصريحات تفيد بإمكانية الحسم العسكري خلال أسبوعين على أقصى تقدير، فأسفرت الحرب عن مقتل ما يقارب 300 ألف يمني وجرح عشرات الآلاف، مع تصنيف منظمات الأمم المتحدة اليمن بأنها أسوأ بلد يتعرض للمجاعة والأمراض المعدية بسبب تلك الحرب.

وفي تأكيد لخيار سلطنة عمان وهو السلام، فقد احتفظت بعلاقات حسنة فهي مع جميع الأطراف اليمنية، ومع الحكومة اليمنية برئاسة الرئيس اليمني السابق عبد ربه منصور هادي، لأنه كان المُعترَف به دوليًا، وسفارتها في صنعاء باقية باعتبار أنها عاصمة اليمن، وأن جماعة "أنصار الله" نسيج من أنسجة اليمن ورقمًا فاعلًا ومؤثرًا، ولم تقم بمهاجمة حزب الإصلاح أو عموم الإخوان المسلمين إعلاميًا، ولم تصنفهم جماعة إرهابية، ذلك أن الإرهاب لم يتم التوافق على تحديده عالميًا، وكذلك فإن تصنيف جماعة أو إنسان ما بأنه إرهابي ستتبعه أحكام قاسية منها تجريمه وأحقية ملاحقته والحكم عليه قضائيًا.

ولم تشن عثمان حملة دعاية ضد المجلس الانتقالي الجنوبي، لماذا؟ لأن دبلوماسية سلطنة عُمان ترغب في بسط اليد للأطراف اليمنية وقوات التحالف للخروج من الأزمة اليمنية، وذلك يقتضي علاقات حسنة مع الجميع، فشعرة معاوية إن انقطعت تعقدت الأمور.

وفي ترجمة عملية للمبدأ الذي ارتضته، فإن طائراتها كانت تطير لإنقاذ جرحى صنعاء كما طارت طائراتها لإنقاذ وعلاج جرحى عدن، دون تمييز يذكر، أكان هؤلاء الجرحى من أنصار هذا الفصيل أو ذاك، حتى صارت مستشفيات صلالة ومسقط تضم أعدادًا من الجرحى والمصابين اليمنيين المنتمين بعضهم لحكومة عبد ربه منصور هادي، وبعضهم لحكومة صنعاء أي أنصار الله (الحوثيين) وبعضهم من الإخوان المسلمين، وبعضهم ينتمي لأحزاب أخرى أي أن طائرات عُمان تحلق في أجواء اليمن حياة لليمنيين وأمنًا.

وحيث إنَّ كثيرًا من اليمنيين من مختلف الفرقاء تعرضوا لحالات تستدعي علاجا أو بتر أطراف أنشأت سلطنة عمان "المركز العربي للأطراف الصناعية" في صلالة، قصده كل من كان يمنيا لتركيب أو علاج الأطراف، بغض النظر عن نزعته الدينية أو القومية أو السياسية، فسلطنة عُمان لا تختبر اليمني عقائديًا "أيدلوجيًا"، وإنما تعامله كإنسان له حق الحياة الكريمة.

الجميع اليوم راغبٌ في حل سلمي ومخرج حقيقي من مستنقع اليمن، مع بقاء ماء الوجه غير منسكب، أي الجميع يريد الأخذ بما كانت عمان قد اختارته وأكدت عليه من قبل.

الذي أراه أنه لو تم الأخذ بمنهج الدبلوماسية العمانية بعدم التدخل العسكري في اليمن لما طالت تلك الحرب، ولما سقط ذلك العدد الكبير من الضحايا قتلى وجرحى، ولما تدمرت مدن وآثار يمنية كثيرة.

إنَّ اتخاذ سلطنة عُمان خيار السلام خيارًا استراتيجيا "مبدئيًا" وليس خيارًا آنيًا "تكتيكيًا" لا يعني إغفال جانب حمايته، فهذا الخيار له معادوه، ومن المؤكد يعمل من يضاد المبدأ لإيذاء صاحب المبدأ لذا فلا يمكن الركون إليه دون قوة حامية له، فباب السلام يُحفظ بعين ساهرة، وقوة تتوقع الشر كما تتوقع الخير، فمن ركن إليه وأهمل غيره لم يحقق لنفسه من السلام ما أراد تحقيقه لغيره.