فاطمة اليماني
تأنَّ ولا تعجلَ بلومِكَ صاحِبًا ***
لعلّ له عذرًا؛ وأنتَ تلومُ!
(الخزاعي)
***
كانت في أواخر الثلاثين من عمرها، يجلس قربها ولد لم يتجاوز العاشرة، مُهمّته الذهاب إلى أصحاب السيارات التي تقف بجانب الطريق؛ وسؤالهم عن عدد صحون الهريس التي يرغبون في شرائها.
وكان بعضهم يتذمّر عندما يعرف بأنّ جميع الأواني مليئة بالهريس؛ فيعود الصبيّ منكّس الرأس؛ مُعاتبًا أمّه؛ لأنّها لا تعدّ إلّا نوعًا واحدًا فقط.
أمّا أبو حمزة، فأصرّ على النزول بنفسه، وألقى التحيّة، وطلب صحنين، وقال:
- لنا عودة بإذن الله تعالى.
ومنذ صعوده السيارة، وهو يُحدث زوجته عن وضع هذه السيِّدة، والمشقّة التي تكابدها من أجل صغارها، ويقارن بينها، وبين بعض الزوجات المرفّهات اللواتي يتذمّرن من مُساعدة العاملة في طهو الطعام!
فتعوّذَت من الشيطان الرجيم؛ لأنّها أقسَمت ألّا تدخل معه في جدال، ما داما في السيّارة، وذلك بعد اصطدامه ببرميل قمامة أثناء انفعاله بسبب رأيها في التَّعدد؛ فاستعرَ غاضبًا مدافعًا، وملوّحًا بيده اليمنى؛ ولم يصمت إلّا بعد صراخ زوجته وطفله رُعْبًا وهو يصطدم ببرميل القمامة.
ومن يومها، تنَاسَت شهادتها العلمية رفيعة المستوى، وما تكتب من مقالات تُهاجم فيها التعدد، وتنتقد فيها الزوجة الخاضعة المُستسلمة!
كما تناسَت ما حدث معها أثناء سفرهم إلى تركيا، عندما رأت بائعة مناديل غير مُحجّبة، وعلى بُعدِ أمتارٍ قليلة منها بائعة مناديل محجّبة. فاشترت من غير المحجّبة؛ لأنّها اقتربت منها كثيرًا في اللحظة التي لطّخ فيها ابنها ملابسه؛ فعاتبها زوجها:
- لماذا لم تشترِ من عند المحجّبة؟
وأخذ يُذكّرها بدورها كمسلمة في نصرة الحجاب، في بلد نسبة كبيرة من نسائه غير مُحجّبات!
وبعد يومين صادفا فتاتين تبيعان الورد؛ فذهبت من فورها إلى المحجّبة، متجاهلةً استجداء الأخرى؛ فقطّبت الثانية جبينها بحركة طفولية؛ رقّ لها قلبُ أبي حمزة!
فتفاجأت وهي تحمل الورد؛ بأنَّ زوجها اشترى وردًا من غير المحجّبة!
وبات طوال الليل يُفسّر لها الخطأ الذي وقَعت فيه، وقال لها بالحرف الواحد:
- دين الإسلام، دين الإنسانية! فالفتاة كانت تبتسم، وأنتِ حطّمتِ قلبَها!
بينما في الحالة السابقة لم تكن ثمّة ابتسامة في الموضوع!
فابتلعت بانادول، وحبّة لانزول، وخلطت الحابل بالنابل! كما خَلَط لها زوجها المبرّرات في دماغها!
وكما يخلطُ الآن الهريس بالملعقة، وهو يخرج قطعا متَفَحّمة؛ فقالت مستهجنة:
- الهريس محروقة!
وفي حقيقة الأمر أنَّ هذه السيّدة؛ قرّرت بين ليلة وضحاها أنْ تبيع الهريس؛ لتحصل على دخلٍ إضافي يعينها على مطبّات الحياة.
ورغم رغبتها الشديدة؛ إلّا أنّها من النوعِ الكسول؛ فتضع يوميّا قدر الهريس على النَّار، وبعد مرور ثلاث ساعات، ترفع الغطاء، وتخلط المكوّنات، وتغرفها في أوانٍ معدنية كبيرة الحجم.
ثمَّ ترسل في (الواتس آب) إعلانًا، بأنّها تبيع أشهى هريس في المنطقة! وأطلقت عليه اسم:
- هريس الفخامة!
كما أطلق أبو حمزة لسانه مبرّرا لها:
- ربّما نست! ربّما سهت! لعلّ له عذرًا، وأنت تلومُ؟[1]
حدجته زوجته بنظرة حادّة، مدهوشة من المبرّرات التي أخذ يسوقها لشيء يجهله؟ وبما أنّها تفهم كلماته وهي طائرة! لقطّ اللّاسلكي الخاصّ بها نوعًا من التعاطف تجاه المرأة.
ولكنّها كعادتها لم ترغب في خوضِ جدالِ عقيمٍ معه، وقالت له:
- لن نشتري منها مرّة ثانية!
ولم تتوقع بأنّها ستشعلُ فتيلَ لسانه؛ فاسترسل يُحدّثها عن دور الفرد في المجتمع، فإذا كان الصمتُ حلّا؛ فلماذا ندّد اللهُ بصمتِ اليهود؟، وقال عنهم:
(كَانُوا لا يَتَناهَوْن عَن مُنْكَرٍ فَعَلُوه).[2]
دعكت عينيها؛ ثمّ استأذنته في أخذ ابنها لتغيير ملابسه قبل النوم.
فقام من فوره، قاصدًا المطبخ، وسأل العاملة عن صحنَي الهريس، وحمد الله أنّها لم تتخلّص منهما؛ فأخذهما، وخرج قاصدًا بائعة الهريس.
وعند وصوله؛ رقَّ قلبُه لولدها الذي أسندَ رأسه على كتفها؛ بينما كانت تقرأُ في مصحفٍ صغير. فنبّهت ولدها عندما رأته؛ فوثب من مكانه إلى سيّارة أبي حمزة؛ وقال له:
- لدينا هريس.
- نعم... سأنزل بنفسي!
خجل من النزول بصَحْنَي الهريس، فتركهما في السيّارة؛ وقصد السيّدة، وسلّم عليها، واستأذنها في الحديث، إذا كان الأمر لا يزعجها!
وبما أنّها لم تستوعب ما يدور في ذهنه، سألته:
- كم صحنًا تريد؟
- في حقيقة الأمر، إنّ الهريس الذي تبيعينه محروق!
ابتسمَت المرأة، رغمَ أنّه كان خائفًا من أنْ تُخْرِج المِغْرفة؛ وتضربه على رأسه! وأخبرته بأنّها المرّة الأولى التي يحدث معها ذلك، ولم تنتبه!
وسألته إذا كان راغبًا في استعادة أمواله؟ لكنّه رفض، وسألها عن طريقة طهو الهريس، والشركة التي تشتري منها القمح، ونوع اللحم، وأسعاره، ومتى آخر مرّة ارتفعت فيها الأسعار، وكيف يعرفُ الفرق بين السمن الأصلي، والمغشوش؟
ووعدته بأنْ تُعدّ له سمنًا أصليّا؛ بعد أن تشتري بقرةً ثانية؛ لأنّ بقرتَها الأولى ماتَت بسبب عين جارتها الحاسدة!
وانتقلا للحديث عن العين، والحسد، ووضّح لها الفرق بينهما؛ وبأنّهما ليسا شيئًا واحدًا! وانتقد بحماسٍ جهل الناس الذين يُرْجِعُون كلّ ما يحدث معهم إلى العين والحسد!
فاستفزّها كلامه؛ وسألته:
- هل تنكر العين، والحسد؟!
ثم طلبت من ابنها الكشف عن ذراعِه، وقالَت له:
- انظر، احترق في ذراعه بسبب العين!
وعندما رأى ضراوتها في الدفاع عن فكرتها، لم يجادلها كثيرًا!
فلا بدّ من احترام فِكْر الآخرِ، وتقبّله مهما كان مخالفًا!
واستأذنها في أنْ يشتري لها طنجرة ضغط كهربائية؛ تساعدها في طهو الهريس، وتختصر الوقت والجهد، وتمكّنها من طهو كميّة كبيرة دون حرقه!
فتهلّلت أسارير المرأة، وشكرته كثيرًا، وقالت له:
- بارك الله في رزقك، ومالِك يا ولدي.
فأراد أنْ يخبرها بأنّه في السابعة والعشرين، وهي تبدو في بداية الثلاثين! وبأنّ التاريخ حافل بقصص أزواج بينهما فارق في العمر قد يصل إلى عشرين سنة!
إلّا أنّه خجل من عاقبة التمادي! وعاد مترنّحًا إلى سيارته، فرحًا بأنّه سيحلّ معضلة هذه السيّدة، فهذا دوره كفردٍ من أفراد المجتمع!
وقبل مُغادرته تأكّد بأنّها لن تغادر إلّا في الساعة العاشرة، فأسرَع إلى أقرب مركز تجاري؛ واشترى الطنجرة السحرية، وأعطاها إياها.
ثمّ اشترى الكميّة المتبقية من الهريس، وذهبَ إلى حظيرة والده، وناوله العامل الذي سخر منه؛ لأنّه لا يعطي البهائم أيّ طعامٍ يحتوي على اللحم!
بينما طلبت من ولدها عدم لمس كرتون الطنجرة، وقامت بتصويرها، وإرسال الصور في (الواتس آب)، ونجحت في بيعها، وقبض ثمنها، واستمرّت في طبخ الهريس بطريقتها المعتادة.
هريس محروق! وزبائن أقسم كلّ واحدٍ منهم على ألّا يعود للشراء منها مرّة أخرى!
أما أبو حمزة، فعاد إلى منزله طَرِبًا، وتغيّر مزاجه عند رؤية زوجته؛ فدخل معها في مُشادّة؛ لأنّها لا تناقشه! وبأنَّ الرجل يحتاج إلى من يحاوره، ويجادله، حتّى في أبسط الأمور، وأكثرها تفاهة، وسألها:
- ماذا تعرفين عن هوايتي؟ لاعبي المفضل؟ فريقي المفضل؟
فقالت له قبل أنْ تغطي وجهها؛ وتغطّ في نومٍ عميق:
- كرة القدم... بيكيه الذي خان شاكيرا...برشلونة!