الدبلوماسية العُمانية والواقعية السياسية

 

د. إسماعيل بن صالح الأغبري

يكاد يُجمع المحللون والمراقبون والسياسيون والصحافيون على تميُّز الدبلوماسية العمانية عن غيرها من دول الإقليم في كلِّ شأن كبير من الشؤون الواقعة في هذا العالم، الذي يموج بالتوترات والتجاذبات، ويتوسَّم هؤلاء في المنهج الدبلوماسي العماني لحلحلة كثير من القضايا الشائكة، وترتيب كثير من البيوت المبعثرة.

يحلُو للبعض وصف عُمان بـ"سويسرا الشرق" تشبيهًا لها بسويسرا الغرب، والبعض يرى عمان وكأنها تغرد خارج سرب الدول العربية، وآخرون من الذين يعتمدون المناكفة والسفسطة يعتبرون التميز الدبلوماسي العماني من باب "خالِف تُعرف"، وقسم آخر يصنف دبلوماسية عمان وسياستها بأنها حالة استثنائية في مواقفها في العالم العربي.

وفي حقيقة الأمر، الدبلوماسية العمانية هي أصل ما تعهَّدت به الدول المنضوية تحت قبة الأمم المتحدة؛ أي أنَّ مواقفها السياسية والدبلوماسية مُنسجمة مع مواثيق واتفاقيات الأمم المتحدة وفروعها، ومنسجمة مع المبادئ العامة لحقوق الإنسان.. ومن هذه المبادئ السياسية العمانية:

1- عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى: هذا المبدأ الأممي العالمي هو المبدأ الذي يجب أن تُعلن عن التزامه كل دولة تنضوي تحت قبة الأمم المتحدة؛ أكانت هذه الدولة عريقة الوجود أو حديثة الميلاد؛ لذلك نرى عند اتفاق دولتين على إقامة علاقات دبلوماسية بينهما التأكيد في أول البنود على الالتزام بهذا المبدأ، والدولة المستقلة حديثا تعلن في أروقة الأمم المتحدة التزامها به.

سلطنة عمان إذا ما وقَّعت على اتفاقية أو معاهدة، أو أقامت علاقات دبلوماسية مع دولة من الدول، فإنها لا تكتفي بإعلان تمسكها بذلك المبدأ قولا، وإنما تطبق المبدأ تطبيقا عمليا؛ فليس الخطأ في الدبلوماسية العمانية بقدر ما يكون الخطأ هو في عدم الالتزام الحرفي للمبدأ الأممي من كثير من الدول، وعلى هذا فالموقف العماني وإن عز مثيله ليس نشازا ولا استثناء.

ومن الأمثلة على التطبيق الحرفي للدبلوماسية العُمانية لهذا المبدأ الأممي:

أ- الموقف من جمهورية مصر العربية بعد توقيعها اتفاقية "كامب ديفيد": أقدم الرئيس الراحل أنور السادات على خطوة كانت مُفاجِئة لكثير من الساسة والجماهير في العالم العربي، وهي توقيعه اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل عام 1979م، فأسفر ذلك عن اعتراف مصر بإسرائيل علانية ورسميا، وقيام علاقات دبلوماسية بينهما، فرفرف علم مصر في تل أبيب، ورفرف علم تل أبيب في القاهرة.

أثار هذا الاتفاق العلني الأول من نوعه بين دولة عربية ذات ثقل كبير في العالم العربي وكثافة سكانية كبيرة، تترأس ما يسمى "بيت العرب" وجامعتهم جامعة الدول العربية، والمقدمة فيهم ورأس حربتهم في مواجهة إسرائيل، أثار لغطا كبيرا وتنديدا واسعا في صفوف الشعوب والزعامات في العالم الإسلامي.

أسفَر هذا الاحتجاج عن قطع الدول العربية علاقاتها مع مصر باستثناء سلطنة عُمان تقريبا، وتم سحب السفراء من مصر، كما تم نقل مقر جامعة الدول العربية منها إلى تونس، واختيار أمين عام للجامعة من غير الجنسية المصرية.

اشترطتْ الدول العربية على مصر -إن رغبت في إعادة العلاقات معها- إلغاء الاتفاقية، وعدم الاعتراف بإسرائيل؛ مما يعني بالضرورة سحب السفراء وعدم رفرفة علم إسرائيل في القاهرة، وعدم رفرفة علم مصر في تل أبيب، وسينتج عن هذا عمليًّا اعتبار مصر نفسها في حالة حرب مع "إسرائيل" بدلًا من معاهدة السلام.

أمَّا سلطنة عُمان، فإنها رأت فيما اتخذته مصر شأنا داخليا، خاصة وأنه تم التوقيع على ذلك برعاية الولايات المتحدة الأمريكية، وقد شاهد العالم كله ذلك التوقيع، وأنَّ مصر لم تعرض هذا الأمر على جامعة الدول العربية ليتم تداوله أو أخذ الرأي فيه من سلاطين وملوك وأمراء ورؤساء الدول العربية، فلو كانت راغبة في موقف عربي أو استجلاء آراء لعرضته، لكنها تراه قرارا تاريخيا سياديا لا يتعلق بغيرها، وسلطنة عمان احترمت خيار مصر، وليس بالضرورة أنها كانت موافقة آنذاك على ذلك الخيار.

انتقد كثيرٌ من الشخصيات السياسية والمراقبين والصحافيين والإعلاميين عدم إقدام عُمان على مقاطعة مصر، متناسين أنَّه ليس بين دول الجامعة العربية اتحاد فيدرالي أو كونفدرالي حتى تنهج سلطنة عُمان منهج غيرها، وكذلك فإنَّ سلطنة عمان لم تنتقد موقف مجموع الدول العربية؛ باعتبار أنَّ انتقادها تدخُّل في شأنها، وعُمان لا تتدخل في شأن غيرها، وهي لا تقبل أن يتدخل أحد في شأنها.

موقف أكثر الدول العربية من مقاطعة مصر لم يكُن واقعيًّا، ولعله فقط من باب المشاكسات أو ردة فعل آنية لعدم مشاورة مصر دول جامعة الدول العربية فيما أقدمت عليه، وبعض الزعامات شدَّدت في خطابها الموجه لمصر رغبة في دغدغة مشاعر الشعوب المعادية لإسرائيل، وعدد من الدول يمكن اعتبار موقفها كان جديا بسبب نزعتها القومية.

يبقى أن نتذكَّر أن الدول العربية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الميلادي المنصرم، كانت في أمس الحاجة إلى مصر، فاستمرَّت هذه الدول التي أعلنت مقاطعتها مصر جلب الأطباء والمهندسين والمدرسين والمزارعين والعمال من مصر، خاصة دول الخليج.. فأين المقاطعة؟

ولم تمضِ إلا سنوات معدودات، حتى بدأت الدول المقاطعة لمصر تسعى إليها، ثم عادت هذه الدول إلى مصر، وافتتحت سفاراتها في القاهرة، وتم التبادل الدبلوماسي، مع أن مصر احتفظت بالعلاقات مع إسرائيل، ولم تلغ اتفاقية كامب ديفيد، ولم يتم طرد السفير الإسرائيلي من القاهرة، أي أنَّ الدول العربية عادت إلى ما عابت عليه سلطنة عُمان من الاحتفاظ بالعلاقات الدبلوماسية مع مصر، ومع ذلك لم تطلب سلطنة عمان اعتذار الدول العربية التي أطلقت إعلامها لمهاجمتها لعدم قطع علاقاتها مع مصر.

ثمَّ لم تمض إلا بُرهة من الوقت، حتى أقامت المملكة الأردنية الهاشمية علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، وتبادلت السفراء اقتداءً بمصر؛ وذلك بالتوقيع على اتفاقية وادي عربة عام 1994م، وسلطنة عمان كان موقفها من الأردن بعد التوقيع كموقفها من مصر.

من الملاحظ أنَّ الدول العربية هذه المرة لم تتخذ موقفا متصلبا، ولو ظاهريا، من الأردن التي حذت حذو مصر، والسؤال المشروع هو: لماذا لم يعتذر أحدٌ إلى مصر؟ ولماذا لم يعترف أحد بخطئه عندما هاجم موقف سلطنة عُمان لعدم قطع علاقاتها مع مصر؟ ولماذا الدول العربية تعيب على الدبلوماسية العمانية مواقفها المبدئية ثم بعد فترة ترتشف منها، وتعود لذات الموقف العماني؟

في خطوات متسارعة، أطلقت القمة العربية المنعقدة في بيروت عام 2002م مبادرة السلام العربية، وهي مبادرة اقترحها الملك عبدالله بن عبدالعزيز عندما كان وليًّا للعهد، اعترفت دول الجامعة العربية بإسرائيل في حدود عام 1967م، فأين ذهب الموقف السابق من مصر؟ وأين ما كان من الدول العربية من مهاجمة سلطنة عمان لعدم قطعها العلاقات مع مصر؟! كما أقيمت علاقات من تحت الطاولة أو فوقها بين دول عربية وإسرائيل، وكان بوابة ذلك المكاتب التجارية.

وحاليًا، فإنَّ مصر والأردن والإمارات والمغرب والبحرين والسودان لها علاقات ظاهرة مع إسرائيل، وفي النقب بإسرائيل ولأول مرة وتحديدا في 28 مارس 2022م عقد لقاء ضم وزراء خارجية أمريكا ومصر والمغرب والبحرين والإمارات العربية المتحدة مع وزير الخارجية الإسرائيلي.

الخلاصة: "إن سياسة سلطنة عُمان راسخة في العمل بالمبدأ الأممي، وهو عدم التدخل في شؤون الدول وإن كان لها رأي مغاير أو موافق لهذه الدولة أو تلك".

وختاما.. لا بد من التنبيه إلى أنَّ هذا المسلك السياسي لسلطنة عمان ورسوخ علاقتها مع من ذكرنا، لا بد أن يتم استثماره تنمويًّا وسياسيًّا، فإن لم يكن له مردود من ذلك القبيل، فإنه فقط بمثابة الإفادة من مجرد الإشادة، وهذا يعني عدم استثمار إيجابيات الدبلوماسية العمانية.