الجزء الفارغ من الثقافة

 

مرفت بنت عبدالعزيز العريمية

متى تكون ثقافة المجتمع بخير، ينعكس الأمرعلى الإبداع والإنتاج، فمن دون الثقافة الجيدة لا يمكن صناعة التطور والتقدم؛ إذ للثقافة دور إيجابي في رفع مستوى الوعي المجتمعي، وتأهيل المجتمع وتطويره.

والثقافة كمفهوم عبارة عن مجموعة من المعارف، يتفق عليها أفراد المجتمع، فهي مزيج من المعلومات والقيم والنظم السائدة والمكتسبة كالعادات والتقاليد والدين وغيرها، وتعد الثقافة ملزمة إلى حد ما لأنها تشكّل المرجعية التي تنظم العلاقات والسلوك الاجتماعي بين الأفراد. ويتمّ التعرف على المجتمعات من خلال ثقافتها؛ لأنها الأساس في تشكيل عادات وسلوكيات الأفراد والجماعات، وتحتل الثقافة المجتمعية موقع الصدارة بين أنواع الثقافات الأخرى، فهي المرآة التي تعكس طبيعة الشعوب وظروفهم، وتعبّر عن أحوالهم وسلوكهم وتاريخهم، كذلك تعبر عن مستوى الوعي المجتمعي تجاه قضاياه في شتى مجالات الحياة.

يقول علماء الاجتماع إن "الثقافة المجتمعية تفسر ثقافة المجتمع وأسسه الفكرية والقيمية والثقافية القائمة، ويصبح من السهل تشخيص المجتمع من خلال ثقافته المجتمعية والمجتمع الثقافي".

ووقع الباحثون في حيرة عند وضع تعريف واضح للثقافة؛ نظرًا لتوسع المفهوم خلال القرن العشرين فقد اندرج تحت مفهوم الثقافة الكثير من المصطلحات الحديثة كثقافة الشتات والسوداء والعرقية والقومية والتربوية.. وغيرها. وتُطلق تسمية "المثقف" على الذي يقوم بالبحث في المعارف وصياغتها وإنتاجها للمجتمع، من أجل رفع درجة الوعي وتحسين مستوى الفرد، فالمثقف كمحترف اجتماعي، هو من يُساهم في نشر الوعي بالتزامه بقضايا المجتمع، فهو لا يعد موسوعة معلوماتية، فقط تنشر المعلومات هنا وهناك، ويفاخر بما لديه من معرفة؛ بل يعد قدوة إيجابية لدعم التغيير الإيجابي، لذلك عادة ما تحاسب المجتمعات المثقف أكثر من السياسي، لأنه يمثلهم ويراد منه تطوير المجتمع والدفاع عن قضاياه وطرح حلول لمشكلاته.

إنَّ الثقافة المجتمعية كغيرها من الثقافات تحتاج إلى الأدباء والشعراء والمفكرين لبناء المعرفة والثقافة وتطويره، لذلك في المجتمعات المتقدمة تمنح هذه الفئة اهتماما ورعاية خاصة لأهميتهم في تكوين الثقافة وإرساء بنودها، فهم مناط بهم نشر الثقافة الإيجابية، ونبذ الممارسات السلبية والدفاع عن القيم الحضارية للمجتمع، من خلال ما ينشروه من معرفة، فالمثقف لا يعد مثقفاً لو اكتفى بغزارة عمله الإبداعي، بل بما يساهم به من أعمال للارتقاء بالمجتمع.

وكما للثقافة دور إيجابي، فهناك دور سلبي للثقافة على الفرد، والمجتمع، وعادة ما يكون المثقف هو المسؤول الأول عن تحويل الثقافة إلى أداة هدم بدلاً من وسيلة بناء وتطوير، إن المثقف قبل أن يصبح مثقفاً فهو نتيجة بيئته، فإن نشأ في بيئة سلبية فإن كل ما سينشره من أفكار ستكون سلبية، أما إذا نشأ في بيئة إيجابية فإن عطاءه سينصب في رفعة المجتمع، لذلك على المثقف أن يسعى إلى بذل الجهد الكثير في منع الثقافة السلبية من الانتشار.

يختار بعض المثقفين الأطروحات التي تروج لهم كأشخاص أكثر من خدمة المجتمع وعلو شأنه، بالرغم من أن المجتمع بحاجة إلى المثقف الإيجابي الفاعل والمتفاعل مع قضاياها يقوم بإرساء المفاهيم الفكرية والاجتماعية والاقتصادية الإيجابية دون غلو أو تطرف، ويستطيع أن يطرح مفاهيم تواكب التطور والحضارة.

ومن جانب آخر، لا يعد خطاب المثقف مؤثرا أو مسموعا، إن لم يستطع إحداث التغيير لأنه بذلك يكون قد فقد مصداقيته وتأثيره في المجتمع، نتيجه انفصاله عن الواقع المجتمعي.

وفي مجتمعاتنا، يميل الناس إلى تصديق كل ما هو سلبي وينفرون من الطرح الإيجابي، فهم يرون في ذلك الطرح مبالغة لا تعكس الواقع، أو أحلام لا يُمكن ترجمتها إلى واقع، أي أننا كمجتمعات عربية نعاني من أزمة الثقافة والمثقف؛ فالثقافة كمفهوم مجتمعي سائد، هي نخبوية تخص الصفوة من المجتمع، ممن يميلون إلى العزلة في أبراج عالية، ويطرحون الأفكار التي لا تلامس التحديات الحياتية، ولا تقدم حلولا ناجعة لمُعالجة قضايا المجتمع، لذلك قلما نشعر بتأثير المثقف الذي يهتم بالجوانب المجتمعية.

الأمر نفسه ينطبق على الثقافة؛ فالمجتمع ينفر من المعرفة الثقافية العامة التي تعنى بحياتنا ويراها محصورة فقط في النخبة من الأدباء والمفكرين، أما الفرد العادي، فلا يرى في الثقافة جدوى فعلية.

أزمة الثقافة هي أزمة مجتمعية؛ فالمجتمع لا يدرك واقعه الحقيقي ولا يدرك حجمه الفعلي ولا يمتلك الرؤية الواضحة عن وضعه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي فيعيش في صراع مع الواقع يقوده المثقفون غير مدركين للحقائق. نرى الاتكال على الآخرين وعدم وجود مبادرات فاعلة لخدمة المجتمع، سمة مجتمعية سائدة بين العموم. والتشكي من سوء الأحوال والتذمر وإلقاء اللوم على الكل دون محاولة خلق مبادرات لحل المشكلات؛ لأنهم ببساطة يتوقعون أن تمطر السماء حلولًا مفصلةً وفقًا لرغباتهم. في مثل هذه المجتمعات يرى الفرد أن مصلحته الشخصية محور المجتمع ولا يدرك مصالح الآخرين وأهمية المصلحة العامة للمجتمع، فيدور الجميع في فلك السلبية والصراع.

يُقال إنْ ضعفت ثقافة الأمة تضعف الأمة والعكس صحيح، فهناك رابط كبير بين التطور والتقدم والثقافة، فكلما زاد النشاط الثقافي للفرد والمجتمع زاد الوعي؛ فالعلاقة بينهما علاقة طردية، فالمجتمعات المتقدمة نشأت على خلفية ثقافية قوية ساعدتها على النمو والنهوض من كبواتها، فنرى مجتمعات كاليابان والصين تنهض من أزماتها في وقت قياسي بالرغم من البيئة القاسية والمحفوفة بالكوارث الطبيعية والأزمات الاقتصادية والسياسة. والهند التي تعد أكبر دولة ديمقراطية في العالم الثالث الحفاظ على تقاليدها وثقافتها واستطاعت أن تذيب الثقافات الغازية على مدى الدهور في مجتمعها التقليدي ويعزو الأمر إلى قوة الثقافة في تلك المجتمعات، والتي تعود إلى الآلآف الأعوام من التراث الحضاري.

نحن بحاجة إلى إبراز دور الفئة الفاعلة من المثقفين الذين يُساهمون في بناء وعي مجتمعي عميق بحاضرنا، فئة قادرة أن تعرف المجتمع بذاته وتحدّد كينونته وتحلل الصراعات وتجبر الفجوات بين أفراد المجتمع حتى يتحررون من قيودهم الداخلية ويجابهون المجتمع الخارجي بثقافة قوية راسخة؛ فالثقافة تقوم على مبدأ القبول والتلاقي والمفيد والمنتج والبناء وعلى الجزء المملوء من الكأس.