على رفاة حقوق الطفل

سعيدة بنت أحمد البرعمية

"لم يبق من رأس الثوم سوى قشوره"، هكذا قال الأبُّ حينما عاد للبيت ورأى ملابس أبنائه وزوجته وأشيائهم دونهم، أفاق من غيبوبته ليجد نفسه وحيدًا بعد الحادث الأليم، تذكّر كيف كان يردد على مسامعهم عبارة تصفهم بأنهم "كرؤوس الثوم كريهة الرائحة قليلة الفائدة" وكيف كانوا يستاؤون من تلك الكلمات وتبعدهم عنه، تذكر سبب الحادث وكيف أنه افتعل مشكلة مع أحدهم أثناء القيادة مما جعله لا يسيطر على القيادة؛ ففلتت منه السيارة لتجد لها مكانا في أحشاء الشاحنة التي أمامه.

لقد أدرك فائدتهم، رحلوا وبقيت رائحتهم تملأ المكان، تنبعث من خزانة الملابس والألعاب، كرائحة ملكة الليل كلما هبّت عليها الرياح الخفيفة ليلا تأخذ عبقها لتهديه أنفاس الهائمين.

تساءل بحسرة، ماذا لو منحتهم بعض الحبّ، بعض الوقت، ماذا لو كنت أبًّا لا خصمًا، ماذا لو كان بدل افتعال المشاكل نقاش مجدي وتفاهم لا تحدي، ماذا لو ولو ولو…..؟ آآآه كم هو محظوظ ابن عمي العقيم!

هكذا نحن لا نفيق من التمادي السفيه والتقصير تجاه من يُحبنا إلاّ بعد فوات الأوان.

طُلب مني منذ أيام تقديم محاضرة للطلبة عن "حقوق الطفل" في إحدى المدارس، لا أنكر أنني شعرتُ بصعوبة المهمة وخوفي من الإخفاق فيها؛ فكيف العمل على تبصير طفل بحقوق يُفترض إتيانها فطريا من أبويه وطواعية من وطنه ومجتمعه، في وقت الأبوين فيه أشدّ حاجة للتبصير بحقوق الابن عليهم.

لم يكن أمامي سوى الاتفاق مع المعلمة لدعوة أولياء الأمور؛ لأهمية الموضوع؛ لكنهم اخفقوا في الحضور، اعتمدتِ في اعداد الموضوع الابتعاد عن لغة المصطلحات ودور اليونسيف في تحقيق حماية الطفولة؛ فالغاية أكبر من إعداد ورقة عمل.

لجأتُ إلى أساسيات البناء، فللإنسان بناء خارجي وآخر داخلي، تشير الآية "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم" إلى البناء الخارجي وهو الخلق في أبهى صورة، ويتحقق البناء الداخلي من خلال الأسرة باعتبارها أهم حق من حقوق الطفل.

في الصحيحين البخاري ومسلم، قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) "كلّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه…" ويتضح من الحديث دور الأسرة في بناء الطفل الداخلي من الفكر والثقافة والهوية والسلوك والتعامل وتثقيفه بأهميته وقدراته وكيانه الخاص خلال مراحل طفولته الثلاثة:

الأولى: مرحلة الأمومة المطلقة من العمر يوم إلى سنتين (الرضاعة الطبيعية والعناية الكافية).

الثانية: مرحلة تأسيسة بحتة من سنتين إلى 6 سنوات (بيئة لغوية ونفسية وفكرية).

الثالثة: المرحلة المكملة للمرحلة التأسيسية مع الإضافة عليها من 6 سنوات إلى 12 سنة (تكملة بنائه اللغوي والنفسي والفكري).

شعرتُ أنّ حقوقه في كلّ مرحلة، تعتمد جميعها على مفتاحين مهمين؛ هما: الحبّ والتثقيف، وهذا ما يجعلني أصل إلى معادلة أبني عليها موضوعي.

 

الأسرة + الحبّ + التثقيف = حقوق الطفل

هذه المعادلة لا تلغي أهمية الجانب المادي؛ لكني سأركز على الجانب المعنوي؛ لعمق أثره في بناء الطفل، إن الأسرة التي تعي أهمية الحبّ كونه أساس التفوق والنجاح، وتؤمن بأهمية التثقيف كخارطة طريق للأهداف وبلوغ الأمان، موقنة أن الطفل كالنبات يحتاج إلى بيئة وظروف ملائمة لينمو ويكبر ويزهر ثم يثمر ستنجح في تشييد البناء الداخلي لأبنائها؛ فعندما يبدع الطفل ويفكر خارج الصندوق فهذا لأنه أحبّ الإتيان بالجديد، وعندما يقوم بواجباته المدرسية والدينية والأسرية دون الأمر؛ فهو بدافع الحبّ للقيام بها، وابتعاده عن ارتكاب السلوك الخاطئ دليل تثقيفه في هذا الجانب، ووعيه بمستوى التعليم الهادف دليل ثقافه آمن بها، حديثه عن الخدمات الصحية المستحقة إدراكا منه لحقه الصحي، ومحاولته الابتكار دليل حبه خوض التجربة، والآخر المشتاق للمّات الأهل؛ فلأن الحبّ قائم بين الأهل، والطفل الذي يقدر قيمة الوقت ويعتني بوقت فراغه ويهبه هواياته المفضلة، فهو يعتني بجانب مضيء في شخصيته يدرك أنه سيشرق في يوما ما، والطفل الذي يدلي برأيه، فهذا لحبّه لفكره المستقل وإيمانه بأهمية وجوده.

المنشأ السليم والبيئة الملائمة الخالية من التعنيف الجسدي واللغوي والفكري يحقق الكينونة والأمان للطفل ويحميه من الاختطاف والاعتداء والاستغلال والشذوذ، والوعي بعواقب التفرقة بين الأبناء أمر هام، فلكل طفل قدرته في التحصيل والإدراك.

أخطاء الأطفال طبيعية ومتوقعة ويجب معاقبتهم عليها بحبّ لا بكراهية وتعنيف، فمواكبة العقاب لروح العصر أمر في غاية الأهمية، نحن في عالم التكنولوجيا والبحث، فينبغي ملائمة العقاب لتحقيق الأهداف والمساهمة في البناء الداخلي للطفل، كعقابه بالبحث في موضوع ما أو كتابة تقرير عن إيجابيات وسلبيات بعض الأمور في الحياة، أو قراءة القصص وتحليلها ومراعاة الكتابة السليمة أثناء التحليل، أو تلخيص كتاب.  

إذن الأساس المنيع والهيكل المتكامل معنويًا وماديًا، بالاعتماد على "أهمية التثقيف" ووعي الأسرة والمجتمع، يتيحان للطفل مجمل حقوقه، اللغوية والنفسية والفكرية التي تمكنه من حياة مستقرة وحقوق متاحة، ورأيّ مسموع على نطاق محمود من الحرية، ونفسية سليمة تتيح له الانطلاق والإبداع وخلق كيانه الفكري والذاتي.