نيوتن و"المونديال".. والحريات المكذوبة!

الطليعة الشحرية

(1)

أَخْبَرُونا أنَّ التاريخ يكتبه المنتصرون؛ يفرضُ المنتصر قصته، واقعه وأسلوبه، ويحذف بجرَّةِ قلم كلَّ ما لا يناسب ذلك، وكل ما يخالف نظامه. لكن ماذا إذا كان المنتصر كاذبًا ومدلسًا وأفَّاقًا؟ فهل سيستمر في فرض واقعه وأفكاره وأكاذيبه على المهزومين قَصْراً؟

وماذا لو ارتفعَ نصف التفاحة بدلاً من سقوطه على رأس "نيوتن"، وأصبح مسار قانون الجاذبية إلى الأعلى أو عموديًّا؟ هل كانت ستظل التفاحة شعارًا لعملاق التكنولوجيا "آبل"؟!

(2)

أعتقد هذا ما فعلته قطر مع "نصف التفاحة"؛ فالاستضافة الاستثنائية لبطولة كأس العالم، وضمن قوانين ومسار ونظام لم يَخْضَع لقوانين الرأسمالية المُتحرِّرة والأكاذيب المغموسة بـ"زقوم التحرُّر اللاأخلاقي"، عبث في الصور النمطية التي عبثت بها ترسانة الإعلام الغربي منذ عقدٍ من الزمن، لم يعد هناك شرق أوسط صحراوي وخيمة وبئر من النفط وبدوي أشعث أغبر يُشهر سلاحه استعدادًا لسفك الدماء.

من المُضحِك أن يكون المونديال مسمارًا في نعش الإمبريالية الغربية المتوارثة والمحصورة في فجوة الحرية العبثية، مُعيداً للأذهان السؤال: هل البشر أحرار أم عبيد الرَّقمية الحديثة؟ وتُجار "السوسيال"، النخَّاسين الجُدد.. مونديال قطر 2022 فَضَح ازدواجية الغرب والمثقفين العرب الليبراليين الجُدد.

(3)

"أوروبا حديقة، وبقية العالم أدغال، وعلى أصحاب الحديقة حمايتها من الأوغاد".. فَضَح تصريح جوزيب بوريل، الممثل السامي للشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي العنصرية الغربية الاستعلائية والعقلية الاستعمارية التي تتستَّر برداء الحُريات المهترئ.

النَّظرة الغربية للشرق الأوسط ما هي إلا تلخيص لواقع سطره المُنتصر الذي يطمح لتجديد استعماره العنصري الاستعبادي للشرق مرة أخرى؛ فقد قالها دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي السابق، إبان حرب الخليج: "من المستحيل أن نطلق صاروخا أمريكيا قيمته الملايين من الدولارات على مجموعة من الخرائب والصحاري".

لقد فقأ احتضان دولة عربية إسلامية شرق أوسطية "المونديال" عينَ الحريات المُعربدة المُتَّشِحة بألوان مجتمع "الميم".

(4)

سَقَط "نيوتن" في قَطَر الصغيرة مساحةً، لكنها أثارت ضجة كبيرة جدًّا، سلسلة من التناقضات والازدواجية الغربية التي شحذتْ ترسانتها الإعلامية -المرئية والمكتوبة والرقمية- تضافرت الأسباب والمسببات والادعاءات التي تدعو لمُقاطعة قطر، وفي الوقت ذاته سقطت معها أقنعة التدليس والنفاق بين الأوروبيين، وأصبح أكثر الأسئلة تضخماً وغرابة: متى يتوقَّف نفاق الحريات اللاأخلاقي؟ ومتى يستفيق المستعبد الرقمي الحديث من عبوديته؟

أقطاب الهجوم على قطر "الميمات الثلاث"؛ كانت الميم الثالثة "متخلفة"؛ باعتبار قطر دولة من العالم الشرق الأوسط المتخلف الثالث، لا يحق لها الانضمام إلى حديقة أوروبا المزدهرة. الميم الثانية "مافيا الخمور"، منع البيرة يُعد كبيرة عظمى لا تُغتفر في حق البشرية البيضاء النَّقية. أما "الميم الأولى -وهي الأهم- فـ"ميم المجتمع الملوَّن"، ومجرد منعه يتطلب استحضار فرسان الهيكل وإعادة أوروبا إلى 300 سنة للوراء لحماية قداسة الحريات والعدالة.

(5)

تتضخَّم فُقَّاعة الأسئلة المُحيِّرة والمتناقضة والمثيرة للجدل، والتي رافقت انطلاق "مونديال قطر"، لتنفجر فقاعة التناقضات العنصرية في وجه مدعي الحريات حول مدى الزيف والتدليس في "قضايا جدلية" تفترش الصحف العالمية، وتتصدر ترندات منصات التواصل الرقمية؛ كقضية أطفال "السوسيال"، وعُبودية الأرقام.

فهل الغرب فعلاً شعب مُتحضِّر كما يدعون؟ أم هم مُجرَّد مُنتصر كاذب امتلك سلطة النصر وقوة نشر الكذب والنفاق باسم العدالة والحرية؟

(6)

أمسك "مونديال قطر 2022" قرنيْ "ثَوْر الرأسمالية" المُتعرِّي برداء "الحريات للجميع". ولمن لا يعرف من هم أطفال "السوسيال"، فهو اختصار لمؤسسات الرعاية الاجتماعية في أوروبا، والتي دأبت على انتزاع أطفال المهاجرين من العرب وغيرهم، وفق القانون ووضعهم للتبنِّي، تحت ستار سوء المُعاملة.

الغريب أن تكون العائلة الجديدة التي تتبنَّى أطفال "السوسيال" من مجتمع "الميم" الأولى.. فهل الأمر صُدفة؟

تتلخَّص عُبودية الأرقام في التحكُّم بسلوك الأفراد مُستخدمين الشبكة العنكبوتية، عن طريق خوارزميات رقمية معقدة، تتبع مُحركات البحث ما تبحث عنه أو ما تشاهد أو ما تعلق عليه في منصات التواصل، وتبدأ في بعث رسائل مشابهة لما قمت بالبحث عنه، لا تهتم تلك الخوارزميات بما إن كنت تبحث بالخطأ أو عن عمد، ما يهم أنها تمتلك القدرة على قراءة وتحليل سلوك الفرد المستخدم للشبكة، وتقلص كل خياراتك البحثية ضمن شرائح معينة مختارة لك، وفق سلوك فردي يحتمل الصواب أو الخطأ، إذن هي تتحكَّم بالمعلومة التي تصل إليك!

(7)

"مونديال قطر 2022" فضح العنصرية الغريبة الاستعمارية، وكشف أحلام أوروبا الزائفة بتحقيق انتصار استعماري أيديولوجي حديث، عن العبيد الرقميين الجدد وخطف أطفال أنجبتهم أرحام مهاجرة مجانية لا تحتاج لاستئجار، ووضعهم في مجتمع مثالي من المجتمع الميمي المُلوَّن.

استعدِّوا فنحن على أعتاب حرب استعمارية أيديولوجية جديدة، تستهدف النسق الكلي للأفكار والمعتقدات والاتجاهات العامة الكامنة في الأنماط السلوكية للمجتمعات: تسطيح، وتهميش، وقتل الأسس الأخلاقية للفعل الواقعي، بل وتوجيهه.

لذا؛ من المهم، بل من الضروري، فضح تلك الممارسات الأيديولوجية الاستعمارية الحديثة، والتي تخول وتفرض تبرير سلوكها الشخصي فقط على الآخرين، وتقمع أيَّ رأي أو سلوك مخالف، وتعده نوعاً من الرجعية.

إنَّ إضفاءَ المشروعية على نظام "الميمات الثلاث" القائم، والدفاع عنه، لهو نكبة أخرى، فمجرد السماح لهم بالتواجد في مونديال يُقام على أرض عربية مُسلمة قد يُسهل -معاذ الله- تشكيل وتمرير أيديولوجيات تمهد لتغيرات غير متوقعة مستقبلاً على المستوى المحلي والعالمي.