عائشة السريحية
ترف المجاملات بات مؤرقاً لكثير من الأشخاص وأنا منهم، والنقد الهادم أيضاً متلف للأعصاب ومزيف للحقائق، أتذكر ما قالته لي أمي حين كنت صغيرة: "لا تغضبي الآخرين بصراحتك، ولا تغرقيهم بمدحك".
كنت محتارة في فهم هذه العبارة وأرددها بيني وبين نفسي مرارا وتكرارا وكبرياء الذكاء في تلك المرحلة العمرية منعني من أن أطلب شرحا مفصلا، كيف لا وأنا التي كنت أظن أني أفهم كلام الكبار جيدا!
ما حيّرني هو كيف تطلب مني أن لا أغضب الآخرين بصراحتي، وفي ذات الوقت لا أغرقهم بالمديح، كنت حائرة كثيرا في حل هذه المعضلة، وأخذت مني وقتا وجهدا لمحاولة فهمها، فلطالما قالتها أمي إذن هي حقيقة مطلقة، كيف لا وأنا في سن الطفولة كنت أظن أن كل الأمهات لا يخطئن وأنهن لا يتحدثن إلا بالحقيقة المطلقة.
لكن حين كبرت قليلًا- وربما كثيرًا- لأنني أشعر أحيانًا أني عشت طويلاً لدرجة أنني تنقلت بين العصور، ما زلت أتذكر الهاتف المنزلي ذا القرص الدائري، ولعبة الأتاري والفاميلي، والآن استخدم الهاتف المطور وألعب بألعاب الواقع الافتراضي ذات الجرافيكس العالي، يبدو أن الطفلة التي بداخلي ترفض أن ترتدي شخصية الكبار وما زلت متعلقة بمشاعر الطفولة حيث لا يهم غير الاستمتاع بلعبة ما!
أعود وأخبركم أنني حين كبرت،عرفت أني أستطيع أن أجمع بين الشيئين، المجاملة والصدق، وجدت أن الكلمة الجميلة والطيبة والإطراء الصادق لا يعد كذبًا، وتعلمت أنني حين أصف شخصا ما وأقول له كم أنت رائع، وكم أنت مدهش، فهذا يعد صدقا لا مجاملة، وحين نقف على أطراف المشاعر ونجد شخصا لا نحبه، أو ربما نكرهه لسبب أو لآخر لكنه أبدع في شيء ما لا نكتم الحقيقة ونعترف بإبداعه، ولكني واجهت شخصيات لا تألو جهدًا في المدح المزيف، ألسنتهم من نفاقها تتمنى لو أنك تسحبها بيدك وتلفها حول أجسادهم كما تلف البكرات، لعلهم يكفون عن الزيف والنفاق، يقولون بالكذب والدجل ما لا تتوقعه ولا تصدقه، ثم بمجرد أن يعرض الشخص عنهم يسومونه سوء العذاب بسياط ألسنتهم ذاتها التي مدحته ورفعته لعنان السماء، ولشدة مكرهم يستخدمون أذرعهم الأخطبوطية ليصلوا إلى جميع الأطراف ويتنقلون ويغيرون الأسماء للمدح والذم حسب الشخص المخاطب، والغريب أنهم يجيدون التمثيل والفهلوة كما يقال، أو العيارة باللهجة المحلية، لكني أشعر بالقرف منهم، تصيبني أرتكاريا إذا واجهت نوعا من هذا الفصيل؛ لأنهم لا يكترثون إن عرفت حقيقتهم، ولا يغيرون من تصرفهم، ذات مرة حين قابلت شخصا من هؤلاء لم أستطع أن أقف على أطراف مشاعري وأتمسك بالدماثة والمجاملة، لقد كان الوضع أكبر من تحملي، فأمطرت تلك الشخصية بوابل من الكلام الصريح، وأسقطت عنه ورقة التوت، وحينها تنفست الصعداء وارتحت من هم ثقيل كان على كاهلي كلما قابلت هذه الشخصية، لقد تخلصت منه للأبد، هكذا قلت لنفسي، لكنني بعد فترة قابلت شخصًا من نفس الفصيل يعود مجددا ليحاول مد لسانه كبساط أحمر أدوس عليه، فأيقنت أن هذه النوعيات لا تستسلم بسهولة.
أتذكر جيدًا حين كنت أعبر عن رأيي بكل أمانة في مختلف مشاهد الحياة، وكنت أظن أن أمانة قول الحقيقة هي مبدأ نشأت عليه، ولكني حين عاركت الحياة وعاركتني اكتشفت أن الحقيقة تحتاج لمساحيق تجميل، وإلا سوف أتهم بالوقاحة، ولكني فشلت في ذلك مرات كثيرة.
إن الوقوف على أطراف المشاعر يجعلني أفكر فيما أقول وكيف سأقوله، وهل بقولي سأصنع صديقا أم عدوا، لذلك ومنذ مدة طويلة، تمثل لي النقد رجلًا ضخمًا، جاءني معاتبًا وكان غليظًا في عتابه فقال بصوته الجهوري: "إن المجاملات لا تعني النفاق، وأنا لست وقحا إنما مصححا، فلو ترك الحبل على الغارب، وتم تهميشي فسوف ينتشر الغث، ويضمحل السمين، أنا لست سيئا كما يُقال، لكن وجودي وحضوري يخيف أولئك المزيفون، ويجعلهم يبذلون جهدا أكبر ويتحرون الحقيقة قبل أن ينفخوا بالوناتهم الهيليونية ويطلقونها فتحجب أشعة الشمس، ووجود مهم لأولئك الذين يزحفون لمسالك الشهرة، ودروب الحصول على المال بحق أو بغير حق، ويدعون ما ليس فيهم ليكون لهم منصة يطلون برؤوسهم منها دون هدف أو معنى، أو أولئك الحساد الذين يبنون الحواجز في طريق المبدعين، كي يستأثروا بالطريق لأنفسهم، وينصبوا الحواجز ويرمون الحجارة الضخمة كي لا يعبر أحد غيرهم الطريق".
نظر النقد إلى السماء وأشار للشمس بيده وقال مُتابعًا: "إن الشمس حقيقة واضحة كافية لتمد الأرض بالنور والضوء، وبقية المخلوقات بالمليارات، تحيا وتموت، وكل واحد منها يظن أنَّه في خلال دورة حياته شمسا يحيا على ضوئها الكون، ولكنه سرعان ما يذبل ويموت دون أن يؤثر موته في حياة بقية الكائنات، وأنا دوري حين أرى من يظن نفسه شمسا أن أصحح مفهومه وأعيده لحجمه الطبيعي دون انتقاص".
وقال وهو يدير ظهره مستعدا للمغادرة، لي أخ توأم يشاركني الاسم، لكنه الوجه المظلم ولا يعجبه شيء، ويدمر كل الأشياء الجميلة ويستخدمه الحقاد والمغرضون، ويصادقه ضعفاء النفوس وكل ختار جاحد، فإياك أن تلجأي إليه، فكثير يلتبس عليهم الأمر بيني وبين أخي، فأنا أصلح وهو يهدم.
ثم غادر متجهمًا لأني ربما تجاهلته لفترة من الزمن، ثم فكرت كثيرا في كلامه، فالنقد البناء لم ولن يصبح أداة هدم أو أذى، إنما هو أداة للتصحيح والبناء، نبدأ بأنفسنا، ثم بالأقربين، ثم ننشر ثقافة النقد البناء في المجتمع، ونصحح المفاهيم المغلوطة التي تنتشر بين أوساط الناس، وأول قرار هو محاربة النقد الفاسد الذي يتخذه البعض ذريعة لإلحاق الأذى بالبشر، والشخصيات التي تضع لنفسها هالة من النقاء وهي ثقب أسود يبتلع كل جميل.