د. صالح الفهدي
تقاطرت مقاطع مختلفةٍ يجمعها طابع التعبير عن الفرح الوطني في العيد الوطني للسلطنةِ الموافق للثامن عشر من نوفمبر، بيدَ أنها جاءت في صورٍ مختلفةٍ، تتوافقُ أو لا تتوافق مع ثقافة المجتمع، لكن علينا أن نتوقَّفَ قليلًا للتحدُّثِ حول هذه التعابير بالفرحِ وعلاقتها بالوطن والتعبيرِ عن الفرح، والاعتزاز به.
بدايةً فإِننا نُحسنُ النيَّةَ والظنَّ في أنَّ الجميعَ خاصَّةً الناشئة والشباب لديهم الوازع الوطني لإِظهار حبَّهم لوطنهم، وهذا منطلقٌ مسلَّمٌ به، على أنَّ الحديث يُركِّزُ حول طُرق ومظاهر ذلك التعبير الوطني الذي يأتي معاكسًا للتعبير الرَّزينِ المعبِّرِ عن الحبِّ الوطني بأدبٍ رزين.
لقد خرج التعبير "الفوضوي" في مناسبةٍ وطنيَّةٍ هي أَجَلُّ مناسبةٍ للإحتفالِ بالوطنِ عن الهدف الحقيقي للإِحتفاءِ الصادقِ بالعيد الوطني، مما أخلَّ بالصورة العامة للاحتفالِ الشَّعبي، وحَرمَ كثيرون من المشاركة للأسباب غير اللائقة، التي رأت أن المشاركة وسط هذه الفوضوية لا تعبِّرُ عن ما يختلجُ في صدورها من حبٍّ وطنيٍّ له ركائزه، ومقوِّماته.
وقد كان واضحًا في هذه المظاهر تقليد عادات دخيلة على المجتمع العُماني، على أنني كُنتُ أحد الذين نبَّهوا لانحراف المسار للتعبير عن الوطن، ومن ذلك مقالي "الفرح الرزين" في عام 2009، أي قبل ثلاثة عشر عامًا، وأقتبسُ منه قولي: "وها نحنُ نرى أن تقليعاتٍ جديدةٍ تظهر على بعض الشِّباب وهو يعبّرون عن أفراحهم، لا تمتُّ لثقافةِ مجتمعنا بصلة ..!! شبابٌ يستُرُ وجهه كي يأخذ مساحتهُ من ممارسةِ الشكلِ الذي يريدُ من الرَّقص..!! ولو أنّه كان يعبِّر بالفرحِ الرّزينِ عن مشاعره لما أخفى وجهه، ولما تقنّع بقناعٍ بغيض..! إنّما كان يُدرك بأن ما سيأتي به منبوذٌ إجتماعيًّا، وأن أسرتهُ لن تسرُّ برؤيتهِ وهو على هذه الحالةِ من التعبير غير الأخلاقي..!! ولكن ما بالك بأسرٍ يسرّها رؤيةُ ابناءها وهو محترفون للرّقص الشّاذِّ، فرحون به وهو يشاهدونهم يرقصون وكأنّهم يشاهدون ابناءهم وقد أحرزوا سبقًا علميًّا، أو ختموا القرآن، أو نالوا جائزةَ نوبل، أو حصلوا على منجزٍ علمي..!! شبابٌ لا يدركونُ أن للفرحِ حدود، وله آدابِ، وأنّه ليس مطلقًا بلا حواجز..!!"
وفي عام 2010 أي قبل اثنا عشر عامًا كتبت مقالًا عنوانه "قيمة الفرح" أقتبسُ منه قولي: "في الأعيادِ الوطنيّة كان الوطنُ أجمعهُ يلبسُ حلّة أنيقةً، رائعة. كانت البيوت تتزّينُ بألوان العلم الوطني في أشكالٍ مثلّثةِ أو ترفرفُ في سطوحها الأعلام، وتُنصبُ في الشوارع الأقواسُ الجميلةُ، والأعلام، وتقامُ الاحتفالات الشعبيّة، فتتّحدُ الأزمنة، والأمكنةُ والنفوس لتصنع لوحةً وطنيّة ذاتَ بُعدٍ وطنيّ جميل.. أمّا اليوم فقد اختصرت الاحتفالات واختزلت في زاوية أستوديو تلفزيوني يتلقّى في مقدّموه التهاني المعتادة".
وفي الوقتِ الذي تحتفظُ فيه الكثير من الشعوبِ باحتفالاتها بطرقٍ تنحو إلى الاحتفاظ بالسكلِ التقليدي المتوارث، أجدُ أنّ ثقافة الاحتفال لدينا تحتاجُ إلى وقفة، أقول ذلك لأنَّ كثيرًا من المظاهرِ التي ترتبطُ بالاحتفال اضمحلت وتلاشت، في حين أنّها ضروريّة لأنها تنمُّ عن الهويّة والخصوصيّة.. لقد فقد أغلبنا قيمة الاحتفالِ، والتلذُّذَ به، لأننا فقدنا الثقافةَ التي تعلّمنا كيف نحتفل!! فما أصبحت أعيادنا إلا صورًا ظاهريّةً، خاليةَ من الحسِّ العميقِ بمعانيها، صورًا تزيّنها الهيئاتُ الظاهريّة القشيبةِ، إنّما هي خاليةُ الجوهر من معاني المناسبةِ".
وهُنا نقول بأنه كان حريًّا بالمؤسسات المعنيَّة منذ ذلك الحين أن تنظر مليًّا في الأَسباب فتعالجها على الفور علاجًا جذريًا، لكنَّها وكما يبدو لي لم تفعل ما يتوجَّبُ فعله، وأوَّلُ ذلك هو تعزيز الوسائل التربوية وإِصلاح التعليم، ولو أنها عملت جادَّة على تصويب الفكر والثقافة والوعي فيما يتعلَّقُ بالأخلاقيات العامة لما وصلتنا اليوم هذه المقاطع التي لا نرى لها ارتباطًا باحتفالٍ وطني له قيمته العالية التي تعزِّز قيم الولاء والانتماء والعرفان.
ولننظر إلى الصورة الكبيرة للوطن في يومِ احتفاله، وهو يومٌ لا تريدُ فيه الأُسر أن تقبعَ في منازلها، بل أن تخرج لتشاركَ غيرها من المواطنين والمقيمين احتفالهم بالوطن، لكنَّهم غرقوا وسط زحامِ الشوارعِ وهو ينطلقون إلى حدائقَ غير مؤهلةٍ لإقامة فعاليات وطنيةٍ منظمة، مما استدعى تدخل فرق الشغب لإِنهاء الفوضى في بعض المواقع.
لا أُريدُ أن أطيل في الحديث فالصورةُ بيَّنة، والمقاصدُ واضحة، ولكنني أقول إن على الجهات الحكومية المختصة أن تتوقَّف عميقًا عند هذه المظاهر المرتبطة بالتعبير عن الانتماء والولاء والاعتزاز بالوطن فقد أخذت طابعًا مختلفًا لا يتناسبُ مع هيبة وعزَّة عُمان. التوقفُ هنا يحتاج إلى إِعمال النظر في الأُسس الأخلاقية، والقيم الوطنية، والأهداف السامية.
فهل ستولي الجهات المقصودة اهتمامًا لما نقوله، أم تتجاهله؟!