علي بن مسعود المعشني
يتفق الكثيرون اليوم على أن ما تُسمى بـ "ثقافة التفاهة" هي ما يسود اليوم ويستحوذ على هامش كبير من اهتمامات الناس وتداولهم اليومي في العالم قاطبة، هذه الثقافة بالنتيجة أوصلت البشرية إلى مرحلة تطاول المُنكر على المعروف؛ بل واستهجان المعروف وكأنه مُنكر !!.
كما يتفق الكثيرون اليوم على أن الأجيال الحالية تتسم بالسطحية والخواء الروحي والفكري ولديها القابلية المرضية (من المرض) لتقبل أي جديد دون تمحيص أو تدقيق أو توطين أو غربلة واعتباره من "ضروريات" العصر و"لزوميات" التطور والعصرنة مع تبريره، ويحمل القليل من هؤلاء تبرير آخر خجول وهو اعتبار تلك المظاهر والظواهر ضريبة حتمية "للانفتاح" و"العولمة" وأخواتها وانبهار الضعيف بالقوي والسعي لتقليده والاقتداء به بصورة عمياء.
الفكر والثقافة في حقيقتهما أدوات معنوية ولكن نتائجهما وإنتاجهما على الأرض أدوات وأشكال مادية ملموسة، فكما تزرع تحصد وكما تُخطط تجني وكما تُعلم عبر المناهج التعليمية أو الخطاب والمحتوى الإعلامي تكون المُخرجات وثمار الفكر والسلوك والتحصيل الثقافي وأدواتها على الأرض لا حقًا.
فالفكر والثقافة تنشئة وغرسا وتعليما تتحمل مسؤولياته في كل دولة ومجتمع منظومة متكاملة تتمثل في الأسرة والمدرسة والإعلام والمجتمع معًا وأي إخلال أو تقصير أو إقصاء أو تهميش لأي من تلك المفردات تكون النتيجة مُعيبة والجهود مبتورة وتظهر مواطن العوار في الشخصية الوطنية وينعكس ذلك في سلوكها ونمط تفكيرها وفي نظرتها للقيم والموروث بصفة عامة وهو الأخطر؛ حيث نرى اليوم من يعتبر القيم والثوابت موروثا عاطفيا لا أكثر بينما يرى الآخرون- وهم قلة- إن القيم والثوابت موروث عقلي يوجب الحفاظ عليها وصونها بما يواكب العصر ويحفظ الخصوصية والهوية ويُحصن المجتمع من أي اختراق نوعي.
العبث في البُنية العقلية للإنسان وإعادة إنتاجها لتتسم بالهشاشة والقابلية للانقياد والتبعية العمياء هي من أخطر الحالات التي يمكن أن تُمارس ضد العقل والفطرة والنيل منهما، وتعتبر صناعة العقل مرحلة متقدمة جدًا وخطيرة جدًا من مراحل تزييف الوعي وحصار العقل ليتمكن الصانع لاحقًا من سكب قناعاته وأفكاره بيسر في العقول الجديدة والتي نُزع منها المنطق والتدبر ومهارات التفكير واستبدلت بالانبهار والتصديق والتبعية العمياء.
كتب الكثير من التنويريين العرب المعاصرين عن خطورة حصار العقل وتزييف الوعي ومن أبرزهم- في تقديري- المفكر العربي الليبي د. الصادق النيهوم (1937- 1994)، والذي أفرد عددا من الكتب والمقالات بهذا الشأن لعل أبرزها كتاب "محنة الثقافة المُزورة". وما يجعل كتابات ومؤلفات د.النيهوم عميقة ومؤثرة ووازنة في هذا الحقل- في تقديري- هو سيرته الذاتية بشقيها العلمي والحياتي وحياديته وعلميته وعقلانيته في التشخيص والتوصيف والعلاج.
ويحمل النيهوم درجة الدكتوراه في الأديان المُقارنة ويتحدث إلى جانب لغته العربية الأم إلى جانب اللغة العربية اللغات: الألمانية، الفنلندية، الإنجليزية، الفرنسية، العبرية، والآرامية المنقرضة لغة السيد المسيح عليه السلام. وتنقل للعيش والعمل الأكاديمي ما بين بلده ليبيا ومصر وفنلندا وسويسرا وألمانيا وأمريكا.
وبالعودة إلى عنوان المقال يمكن القول إن مظاهر الوعي الزائف لم تعد حالات فردية واستثناء في مجتمعاتنا العربية اليوم، بل ظواهر ومظاهر ومحافل فكرية خطيرة ومدعومة بقوة من ماديًا ومعنويًا من جهات وأطراف معروفة وشبه معروفة وما الربيع العبري الذي أُبتليت به الأمة ويُعاد إنتاجه إلا أحد هذه الظواهر الخطيرة والتي كشفت لنا حجم الاختراق العقلي وهزالة وهشاشة البُنية العقلية للمواطن العربي اليوم والتي جعلت منه معول هدم للوطن بامتياز، هذه الهشاشة والاستلاب العقلي هي التي كرست ورسخت الاحتراب بين النُظم الرسمية العربية الحاكمة والشعوب، وغرست في وجدان وحواس كل منهما قناعات مزيفة بأن كل منهما عدو للآخر، وأن الغرب الاستعماري بجميع أدواته ومؤامراته وصراعه الوجودي مع الأمة العربية بريء براءة الذئب من دم يوسف، لهذا لا تعجب حين ترى وتسمع عن جهاد "إسلامي" برعاية أمريكية بريطانية !!
ولا تعجب حين تسمع وترى شعوبا تخرج إلى الشارع وتحرق الأخضر واليابس وتطالب حكامها بالرحيل بزعم عمالتهم للغرب وفي نفس الوقت تستقوي بالغرب وتناشده للتدخل بل وبتطبيق البند السابع على بلدانها!! لا تعجب إذا رأيت وسمعت من يضع العروبة والإسلام في صناديق الاقتراع كأحزاب وكتل وحركات سياسية في أقطار عربية ومسلمة وتوشح دساتيرها بهوية الدولة العربية والمسلمة!! لا تعجب حين ترى وتسمع من يقول بأنَّ اللغة العربية لغة تخلف ويدعو إلى تعلم وتعليم اللغات الأجنبية والتي تتحول مع الأيام وبفعل الهشاشة المعرفية والفكرية من لغات علم إلى لغات هوية وسلوك ومشاعر وتعبير وتخاطب وتفكير!! لا تعجب وأنت ترى وتسمع أشخاصا ومحافل من أبناء جلدتك ينالون من الثوابت ويسفهون ويسخرون من دعوات الشرفاء والمخلصين للتمسك بالهويات الكبرى من عروبة وإسلام ويصفونها بالشوفينية!! لا تعجب وأنت ترى الكل يُفتي ويُفسر ويُحلل في كل شيء فأنت في زمن الوعي المُزيف الذي ساوى بين الأضداد التي لا تلتقي عادة في عقل سوي.
لا تعجب فأنت في زمن الهشاشة وغياب الوعي وتغييبه ومحاربة الجوهر والتمسك بالقشور، فهؤلاء "البرمائيون" الجدد، ماهم إلا نتاج حتمي لمنظومة تعليم بلا فلسفة وإعلام لا يُشبهنا مُطلقًا. فحين تُصبح خيانة الوطن وجهة نظر، والتطاول على القدوات والثوابت والنيل منها حرية تعبير، والذباب الإلكتروني شخصيات مؤثرة تصنع الوعي وتقوده، والتدمير والقتل والخراب مطالب إصلاح، وإن الغرب الاستعماري يرعى الثورات والجهاد والإصلاح، وإن التطبيع مع المحتل والغاصب سلام وواقعية سياسية، إن الغرب بثقافته وقيمه هو الملاذ الأخير للبشرية، فتيقن بأن السبب هو غياب التعليم والإعلام برسالاتهم الحقيقية.
قبل اللقاء: الحقيقة عند العالم بها "مُطلقة" وعند الجاهل بها "حمالة أوجه".
وبالشكر تدوم النعم.