عدم الاكتراث

 

عبدالله الفارسي

 

سؤال بسيط وخفيف ورشيق ومقرمش موجه إلى وزارة العمل الكريمة الموقرة، قبل الدخول في موضوع المقال: هناك شباب خريجون منذ سنة واحدة ومنذ سنتين، تم تعيينهم ولله الحمد والمنة وهم يستحقون ذلك، لكن هناك خريجين أقدم منهم منذ 4 و5 سنوات ما زالوا في قائمة الانتظار، فكيف يتم تعيين خريجي 2020 و2021 قبل خريجي العام 2017 أو 2018؟

هل تستخدمون آلية "امسح واربح" في التوظيف؟ أم تستخدمون نظام "حظك بختك هذا يوم سعدك"؟! ما قانون التعيين الجميل الدقيق المبدع الذي تستخدمونه؟ وما آلياته العادلة وحيثياته الرائعة؟ أفيدونا رحمكم الله، وإذا كان سؤالي مزعجًا ولزجًا ومعقدًا، فتجاهلوه و"لا تكترثوا به"!

******

كثيرٌ من المدارس النفسية والاجتماعية تؤكد أهمية تعليم الطفل منذ نعومة أظفاره طرق التكيف مع الحياة. والمعروف أن الحيوانات أكثر قدرة على التكيف مع الطبيعة من الإنسان، لقد زودها الخالق بكل عناصر المحافظة على بقائها والقدرة على ابتكار وسائل سريعة لحماية نفسها والمحافظة على نوعها. لكن الإنسان يُولد ضعيفًا عاجزًا، يولد وعقله صفحة بيضاء ثم يتعلم طرق مقاومة المخاطر وكيفية إنقاذ روحه من الأخطار المحيطة به وحماية نفسه من الهلاك. وأعتقد جازمًا أنه حاليًا تواجه الإنسان مخاطر شديدة، فهو يواجه المجتمع بكل قسوته وتفاهته، ويواجه الواقع المعيشي بكل جموده وخشونته وقسوته ونكرانه.

******

منذ فترة ليست بالقصيرة شاهدت مقطعًا يوتيوبيًا أو ربما فقرة تلفزيونية، لست متأكدًا، فقد بدأت ذاكرتي في الترهل والتمزق، تم تصوير المقطع من خلال كاميرا المقهى. المقطع يعرض موقفًا عجيبًا وملفتًا لرجل لم يكترث بما يحدث بجانبه؛ حيث كان يتناول شطيرة في المقهى وحدثت مشاجرة عنيفة جدًا بين مجموعة أشخاص داخل المقهى وصلت لدرجة كسر الرؤوس وإسالة الدماء. وصاحبنا كان يأكل شطيرته بكل هدوء، ولم يكترث بكل ما يحدث حوله. كان الموقف في منتهى الغرابة والجمال أيضًا. الغرابة في برودة الرجل وعدم تزعزعه أو خوفه على نفسه من الإصابة بشيء من أسلحة تلك المعركة التي كانت تطاير فوق رأسه وعلى سنتيمترات منه. وجمال الموقف في حكمة الرجل وصلابته وتحكمه في معدل توتره وضبط خوفه. وقامت إحدى قنوات التلفزيون بالبحث عن الرجل وإجراء مقابلة حصرية معه. وطبعا السؤال الذي وُجِّهَ اليه: هل كنت تسمع وترى ما يحدث في المقهى وعلى بعد سنتيمترات من مقعدك؟ هل معدل السمع معك جيدًا؟ كيف لم تحرك ساكنًا خلال تلك المعركة التي تحدث بجانبك؟

ابتسم الرجل بكل هدوء وقال: نعم كنت أشاهد واسمع كل تلك الحماقة الضخمة التي أمامي.. لكني لم أكترث! أتعرفين لماذا؟ لأني كنت جائعًا جدًا وكانت تلك الشطيرة التي في يدي أثمن شيء في العالم بالنسبة لي في تلك اللحظة. لذلك لم أكترث لأولئك الحمقى الذين يتعاركون أمامي ويريدون أن يفسدوا شهيتي، ولذلك لم التفت إليهم. لقد علمني والدي منذ طفولتي مهارة "عدم الاكتراث"، وكان يلقنني دروسًا عملية ولمدة نصف ساعة يوميًا حول كيفية امتلاك مهارة عدم الاكتراث. كان يلقنني الشتائم المقرفة اللاذعة ويقوم بحركات سخيفة واستفزازية ويعلمني كيفية امتصاصها وتحملها دون أن أغضب أو انفعل، ويقول لي: هذه التفاهات ستواجهها في حياتك فكن مستعدًا لمواجهتها.

والدي كان أعظم "لا مكترث" في هذا العالم، إنني أحبه وافتخر به جدًا. لذلك كما شاهدتموني أنا غير مكترث بما حدث أمامي، ولن أكترث غدًا بما سيحدث أمامي وجهازي العصبي في مأمن تامٍ من سخافات الناس وتفاهات البشر.

******

حقيقةً.. كلام في الصميم وموقف في منتهى الروعة ومن أجمل ما سمعت وشاهدت.

كيف نستطيع أن نحمي أنفسنا من سفاهة الواقع وتفاهته؟ فعلًا كم نحن بحاجة ماسة جدًا وملحة لتعليم أولادنا مقاومة الواقع، لا بُد من تعليمهم وتدريبهم كيفية مكافحة الاستفزاز اليومي والإحباط اليومي والانكسار المتفشي والمنتشر.

يجب تعليمهم "يوغا" الصمت والسخرية من مرارة الواقع؛ فالقادم من وجهة نظري وحسب المعطيات وقراءتي وخبرتي الطويلة في الحياة، لن يكون سهلًا أو مريحًا؛ بل سيكون مزعجًا وربما مرهقًا عليهم. لذلك يجب أن نعلمهم كيف يمتصون سخطهم. لا بُد من تعليمهم كيف يثلجون غضبهم ويجمدوه وكيف يكتمون لعناتهم الساكنة في صدورهم. لا بُد من تلقينهم مهارات التصدي للصدمات ومناطحة الانتكاسات والإقصاء والرفض وتحطيم الأحلام وتوقع الأسوأ. يجب تعليمهم كيفية التكيف مع اللامعقول واللامنطقي واللامقبول واللاممكن. يجب تعليمهم التأقلم مع المؤسف والمخزي والمؤلم.

نحتاج إلى معاهد كثيرة ومدربين متمكنيين في مهارات عدم الاكتراث! إنه أهم من كل التخصصات التي يدرسها طلابنا حاليًا.

"عدم الاكتراث" هو التخصص العالمي الجديد للحفاظ على صحة الشباب النفسية، وضمان بقائهم على قيد الحياة بمعدل صمود معقول يحميهم من الانهيار؛ فالشباب ثروتنا الوحيدة الآن ولا بُد من حمايتهم وتزويدهم وبسرعة بمهارات وأساليب "عدم الاكتراث".

أتمنى أن يكون مقالي هادفًا ومقنعًا، وإذا كان غير ذلك.... فلا تكترثوا به!