"الاحتياطي الفيدرالي" بين مطرقة التضخم وسندان الركود

د. خالد بن راشد الخاطر

 

كما كان مُتوقعًا، رفع الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) الأمريكي مُؤخرًا سعر الفائدة بنسبة 0.75%؛ ليكون هذا الرفع الرابع من نوعه بهذا الحجم على التوالي، والسادس خلال العام الجاري؛ ليُصبح سعر الفائدة الأساسي في نطاق، 4% - 3.75%، ومن المتوقع أن يواصل ذلك في بقية العام، في محاولاته الحثيثة لكبح جماح التضخم الذي أوشك أن ينفلت من عقاله، بعدما وصل إلى 8.2% في سبتمبر الماضي.

وتتفق معظم البنوك المركزية العالمية على استهدف التضخم، لما لذلك من دور كبير في تعزيز الاستقرار الاقتصادي، وبالتالي النمو الاقتصادي، والاستقرار والرفاه الاجتماعي. أما الاحتياطي الفيدرالي فهو يحاول الموازنة بين استهداف التضخم والتوظيف. وبما أن معدلات البطالة منخفضة (عند 3.6% في سبتمر الماضي)، فإن ذلك يتيح له التركيز على هدف استقرار الأسعار.

وارتفعت معدلات التصخم كذلك في منطقة اليورو لأعلى مستوى منذ إطلاق اليورو عند، 10.7% في شهر أكتوبر، و8.8%، في بريطانيا في سبتمبر على أساس سنوي، مدفوعا بشكل أساسي بتضخم أسعار الطاقة والغذاء، وقد رفع البنك المركزي الأوروبي وبنك إنجلترا (المركزي البريطاني) أسعار الفائدة بأعلى معدلات منذ فترة طويلة، وسيواصلان ذلك مستقبلا.

صدمات متتالية

أما في أمريكا فقد وصل معدل التضخم لأعلى مستوى له في أربعة عقود عند 8.2%. وقد تضافرت عدة عوامل في ذلك، نتيجة صدمة إيجابية على جانب الطلب (رفع)، قابلتها صدمة سلبية على جانب العرض (خفض) أدت إلى ارتفاع معدلات تضخم، قد يصحبها انكماش لاحقًا، فيصبح ركودا تضخميا، أي إنكماش أو ركود مصحوب بتضخم، وهو من الحالات النادرة، إذ عادة ما يصاحب التضخم النمو الاقتصادي القوي، وليس العكس، كما حدث في قطر خلال الطفرة التي سبقت انفحار الأزمة المالية العالمية، فقد كانت قطر الأسرع نموا في العالم خلال تلك الفترة، ولكن كان مصحوبًا بمعدل تضخم مرتفع.

مصادر التضخم من جانب العرض جاءت نتيجة لارتفاع أسعار الطاقة، والغذاء، والأسمدة (بسبب الحرب الروسية الأوكرانية)، وعودة الإغلاقات في الصين، وقبلها تبعات فيروس كورونا الذي دمر جزءًا كبيرًا من سلاسل الإمداد وقوة العمل، وأدى إلى خفض العرض العالمي. أما ارتفاع الطلب فيأتي نتيجة للتعافي من جائحة كورونا، بعد سياسات مالية ونقدية توسيعة جدًا، وارتفاع الادخار. ولأن هناك طلبًا قويًا أسرع من استجابة العرض، فإنه يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، وأتت الحرب الروسية الأوكرانية، بتبعاتها على نقص الطاقة والغذاء لتصب الزيت على النار، ولأن جزءا كبيرا من هذا التضخم بسبب صدمة من جانب العرض، بسبب نقص الطاقة والغذاء، فإن البنوك المركزية لا تستطيع فعل شيء حيال ذلك، ولكنها تحاول معالجته بإحداث صدمة سلبية على جانب الطلب لتثبيطه، والإبطاء من عجلة الاقتصاد، وذلك برفع تكلفة الائتمان من خلال رفع أسعارالفائدة، لكبح التضخم.

انفلات التوقعات التضخمية

وعدم ضبط التضخم المرتفع، يؤدي إلى انفلات التوقعات التضخمية، ويُدخِل الاقتصاد في دوامة سباق متسارعة بين الأسعار والأجور، تدفع الاقتصاد نحو انكماش قد يطول، كما حدث في السبعينيات من القرن الماضي، والمركزي الأمريكي والبنوك المركزية في أوروبا، تريد تجنب ذلك، هذا إضافة إلى الآثار الاجتماعية والسياسية للتضخم.

ومع أن مستويات الفائدة ما زالت معتدلة، إلا أن الإشكالية تتمثل في حجم ووتيرة الرفع المتسارعة، والتي لم يحدث لها مثيل منذ عدة عقود، وتأثيرها على القطاعين الحقيقي والمالي. بمعنى آخر.. هل يتسبب ذلك في إدخال الاقتصاد في انكماش، إضافة إلى الآثار السلبية الأخرى على أسواق المال والدين والعقار؟ فبأي تكلفة سيتم ضبط التضخم؟ وهل ستكون مُبرَّرة؟

كانت التوقعات بانكماش معتدل مع منتصف العام القادم نحو منطقة السالب، وارتفاع في معدل البطالة من 3.7% في 2022 إلى 4.4% في 2023 في أمريكا، لكن يبدو أن هذا السيناريو كان متفائلًا.

لسوء الحظ أن هذه الأزمة أتت بعد فترة طويلة من السياسات المالية والنقدية التوسعية جدًا، وتراكم الدين لمستويات عالية، على إثر أزمة كورونا وما قبلها، ولذلك سيكون لمحاولة الخروج منها بهذه الطريقة القوية والمفاجئة، باقتصاد مثقل بالدين، ثمن باهظ، وهو وضع مشابه للأزمة المالية العالمية التي حدثت في 2008، وأزمة ديون أوروبا السيادية عام 2010؛ إذ ابتدأتا من مستويات عالية للدين. ولن يكون خفض التضخم سلسًا وبآثار سلبية محدودة في الآجل القصير، كما كان متوقعًا؛ بل على الأرجح أن يكون على شكل صدمة عميقة وليست قصيرة الآجل. ويجب أن لا ننسى أن هذا الرفع بدأ من أسعار فائدة مقاربة للصفر، بسبب السياسات النقدية التوسعية لمواجهة أزمة كورونا، إضافة إلى ما تم ضخه من سيولة ورؤوس أموال هائلة، وديون مرتفعة في النظام المالي، فلم يكد الاحتياطي الفيدرالي يخرج من سياسة أسعار الفائدة شبه الصفرية والتيسير الكمي لضخ كميات هائلة من الأموال في الأسواق، خلال فترة الأزمة المالية العالمية (2008- 2016)، حتى عاودها خلال أزمة كورونا عام 2020.

السيناريو الأسوأ: أزمة مالية جديدة

فمع حجم الدين المرتفع، وفي جميع القطاعات الاقتصادية: العام والخاص والعائلي والشركات والمؤسسات المالية وغير المالية والحكومات والدول، فإنَّ رفع سعر الفائدة بهذا القدر والوتيرة، سيخلق أزمة ديون وضغوطات مالية كبيرة، ويرفع من حالات الإجهاد في النظام المالي. وهذا سيؤثر سلبًا على أسواق العقار والمال، وعلى المقدرة المالية للقطاع العائلي وقطاع الأعمال، وسيخفض الاستهلاك والإنفاق ويطمس الاستثمار، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، سيرفع تكلفة خدمة الدين، وبالتالي سيقود إلى نفس النتيجة وسيجعل الانكماش أسوأ.. ولذلك المركزي الأمريكي والبنوك المركزية في مأزق؛ فهدفها هو ضبط التضخم، وإن لم تفعل فسيخرج عن السيطرة، بآثاره الاقتصادية والاجتماعية المُدمِّرة، وإن فعلت فسيُحدِث ذلك أزمة مالية ثم اقتصادية، ثم انكماش عميق، والسبب هو حجم الدين الهائل في النظام المالي. فالدين يكاد يكون هو في قلب كل أزمة مالية، وفي قلبه سعر الفائدة؛ فمعظم الأزمات المالية تاريخيًا، سبقها عاملان: توسع مفرط في منح الائتمان، وتضخم في أسعار الأصول. وبالتالي، فإن محاولة ضبط التضخم الآن، بحسب هذا السيناريو، ليس فقط سيحدث صدمة اقتصادية كبيرة؛ بل انكماش عميق، وانهيار في أسواق الأصول (العقار والمال بجميع أنواعها). وفي هذه الحالة سيغذي انهيار القطاع المالي، القطاع الحقيقي، وسيكون هناك أثر متبادل بين الاثنين يقود إلى انهيار مالي اقتصادي.

فما كاد الاقتصاد العالمي يتعافى من أزمة جائحة كورونا، حتى أصيب بأزمة اجتياح روسيا لأوكرانيا.

دول الخليج

ونظرًا لأن البنوك المركزية الخليجية تثبِّت عملاتها أمام الدولار الأمريكي، فلا يوجد لديها خيار سوى اتباع سياسة الاحتياطي الفيدرالي النقدية. ‏ وحاليًا يوجد توافق في التوجهات التضخمية بين دول الخليج وأمريكا، جزئيًا، بسبب ارتفاع، مداخيل النفط في الأولى، وأسعاره في الثانية؛ فالرفع عمومًا في الاتجاه المناسب الآن، فكلا الطرفان يواجه ضغوطاً تضخمية تتطلب سياسيات نقدية انكماشية، عكس التفارق الذي حدث في الدورة التضخمية التي سبقت الأزمة المالية العالمية 2008. وجزء من التضخم الخليجي محلي والآخر مستورد؛ بسبب ارتفاع الأسعار الدولية، وبالتالي هو مُتسق مع التضخم العالمي. لكن حجم ووتيرة الرفع المتسارع في أسعار الفائدة الأمريكية، سيكون له آثار سلبية على أسواق المال والعقار والدين، الذي سترتفع تكلفته على المقترضين، وأسواق المال أيضًا ستتأثر سلبًا بهبوط أسواق المال العالمية، لكن ذلك لن يقود إلى انكماش.

‏أما الدول العربية الأخرى فستصاب بصدمة ثلاثية: ارتفاع أسعارالغذاء، وارتفاع أسعار الطاقة، وارتفاع أسعار الفائدة، وبالتالي ارتفاع تكلفة الائتمان وخدمة الدين، وسيؤدي ذلك إلى خروج رؤوس الأموال من هذه الدول، وإلى انخفاض قيم عملاتها، وبالتالي أيضًا المزيد من ارتفاع معدلات التصخم وارتفاع تكاليف خدمات الديون المقوَّمة بالدولار، وستحد هذه العوامل من التعافي من أزمة كورونا، وربما يدخل بعضها في انكماش عميق أو ركود تضخمي، اعتمادًا على حدة هذه العوامل. وكذلك الحال بالنسبة للاقتصادات النامية والمتحولة، فإضافة إلى معدلات التضخم المرتفعة بسبب نقص الطاقة والغذاء، ستواجه أيضًا حركة عكسية بخروج رؤوس الأموال وهبوط أسعار صرفها، وبالتالي المزيد من ارتفاع معدلات التضخم مع ارتفاع تكلفة الديون الدولارية، وقد يدخلها في انكماش، أو ركود تضخمي.

** كاتب متخصص في السياسة النقدية وعلم الاقتصاد السياسي

باحث زميل بمركز الاقتصاد الكلي ومعهد الفكر الاقتصادي المستجد، جامعة كامبردج البريطانية

تعليق عبر الفيس بوك