لحداثتها "تشحرنت" (1)

 

 

عائشة بنت أحمد سويدان البلوشية

 

كان أجمل ما يُمكن أن يُسعدني في طفولتي هو عندما تصطحبنا جدتي- رحمها الله- لزيارة السيدة الجليلة بيبي "ميزون بنت أحمد المعشنية" والدة السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله مرقديهما بمسك الجنَّة- ومنذ طفولتي أخذت بتلك الشخصية الراقية المُثقفة التي تتميز بجمال استثنائي، وحضور "كاريزمي" -إن جاز لي التصريف- قوي يفرض نفسه على المجلس، فكنتُ منذ اللحظة التي ندخل عليها لا أحيل نظري عنها، وأشد ما لفت انتباهي تلك اللغة الخاصة التي تتحدث بها مع وصيفاتها أو المضيفين لتأمرهم بجلب "الفوالة"- على سبيل المثال- أو الاستفسار عن أمر ما، وعرفت لاحقًا بأنَّ تلك اللغة تعرف بـ"الجبالية"، ثم أصبحت تلك اللغة مألوفة على مسمعي كلما زرتُ محافظة ظفار، وكم كنتُ أتوق لتعلمها.

سمّيت هذه اللغة الجميلة بالشحرية نسبة إلى الشحرة الذين كانوا أول من استوطن الجبل في ظفار، ثم بعد ذلك توالت القبائل الأخرى في سكن الجبل، فتعلموا هذه اللغة منهم، ثم أصبح كل من يسكن الجبل يتحدثها فأطلق عليها "اللغة الجباليّة"، ومن الجدير بالذكر أن هذه اللغة كانت أكثر انتشارًا في سابق الزمان وذلك لسببين؛ الأول هو التزاوج بين أهل الجبل وأهل المدينة، كما إن حرفة أهل المدن كانت الصيد أو التجارة أو الزراعة، ومع هبوب رياح "المونسون" (الموسمية) وبدء موسم الخريف ترتفع أمواج البحر، فيصعب ركوب البحر ويشح الصيد وتزداد نسبة هطول الأمطار ويُصبح البقاء في المدينة صعبًا، لذا يُفضِّل أغلب أهل المدينة الصعود إلى الجبال للسكن مع الأصدقاء الأقارب لجمال الطقس والطبيعة هناك وتوافر الحليب ومشتقاته، وزراعة المحاصيل الموسمية من البقول والخضراوات هناك حتى بداية موسم "الصرب". ورغم تمسك قبائل الجبال بتحدث اللغة الشحرية، إلّا أنها باتت أقل انتشارًا من ذي قبل؛ فالطلبة في مدارسهم يتحدثون مع معلميهم باللغة العربية، وتجد الموظف يتحدث العربية مع زميله الذي لا يُتقن الجبالية، وأصبحت الشحرية متداولة في المنزل لدى الأسر التي تستخدمها كلغتهم الأولى.

اللغة الشحرية (الجبالية) من أقدم اللغات في المنطقة وربما في العالم، كما أنها من اللغات المعرضة للانقراض فهي لغة منطوقة ولا تكتب، لذا يصعب توثيقها كتابة، حيث حاول العديد كتابة مفرداتها باستخدام اللغة العربية أو الإنجليزية، لكن متحدثي اللغة الشحرية -وهم عرب أقحاح- يتميزون بمخارج حروف لا يمكن كتابتها، ومهما بلغت حذاقة الذي يحاول كتابتها فلن يبلغ مرماه، فالمدقق للكلمات يجد أن بعض الأصوات عبارة عن إدغام ثلاثة حروف في صوت واحد.

 

(يتبع)........

 

----------------------------------------------------

 

توقيع:

"إِذا المَرءُ لا يَرعاكَ إِلّا تَكَلُّفا // فَدَعهُ وَلا تُكثِر عَلَيهِ التَأَسُّفا

فَفِي النَّاسِ أبْدَالٌ وَفي التَّرْكِ رَاحة // وفي القلبِ صبرٌ للحبيب ولو جفا

فَمَا كُلُّ مَنْ تَهْوَاهُ يَهْوَاكَ قلبهُ // وَلا كلُّ مَنْ صَافَيْتَه لَكَ قَدْ صَفَا"

الإمام الشافعي.