يوسف عوض العازمي
alzmi1969@
"ربما لم أتكيف مع العالم حتى الآن، لا أعرف، أشعر وكأنَّ هذا العالم ليس بالعالم الحقيقي، الناس، المشهد: لا يبدون لي حقيقيين" هاروكي موراكامي.
*****
ما الحقيقة؟ وهل كل ما نظنه حقيقة هو في الواقع حقيقة؟ هل أحلام اليقظة ترافقنا حتى ونحن يقظين؟ هل متلازمة الحقيقة والخيال ملاحقة لرؤيانا؟ هل نحن فعلا نعي ما الحقيقة؟ أم نتصورها ونعتقدها وربما نتوقعها؟ هل كل ثابت حقيقة؟ وكل متحرك حقيقة أم من خيال؟!
الفيلسوف الفرنسي لالاند يحدد المعنى الفلسفي لمفهوم الحقيقة في خمس دلالات هي:
الحقيقة هي خاصية كل ما هو حق.. الحقيقة هي القضية الصادقة.. الحقيقة هي ما تمت البرهنة عليه.. الحقيقة هي شهادة الشاهد الذي يتكلم عما رآه أو ما سمعه.. الحقيقة هي الواقع (1).
هل للحقيقة أبواب مغلقة، هل أبوابها مفتوحة، وبما أن محدثك متخصص بالتاريخ سأطرح تساؤلا وليس سؤالا حتى لايذهب الفهم بعيدا: هل كل ما تم تدوينه في كتب التاريخ صحيح وحقيقة، أم أنه فقط خيال وتوقعات لكتاب أقنعوا أنفسهم بأنهم يحملون صفة مؤرخ!
كتبتُ وذكرت كثيرًا في مقالات سابقة ألا يكون القارئ ساذجًا ويصدق كل ما يكتب في الكتب، وبالطبع لا أقصد كل الكتب، لكن هناك كتب كثيرة تتلاعب بالحقيقة بما يحقق مصلحة معينة أو يبرر لفعل ما، وهو مايسمى بسرقة الحقيقة، وللأسف هذه السرقة تجد عملاء وزبائن يروجون لأكذوباتها، ولعل أهم الأكذوبات التاريخية التي جرى الترويج لها بشكل مريب هي كذبة الحق التاريخي لليهود في فلسطين!
بالطبع هناك حقائق تامّة لا تقبل الشك، كالعمليات الحسابية البحتة؛ إذ إن (1+1 = 2)، لا محالة، والشمس تشرق من المشرق، وما نعيش عليه هو كوكب الأرض، والله جل في علاه قال في سورة الرحمن: "الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ" (الآية 5).
معقولية الحقيقة والخيال قد لا تتضح وفق التخيل العقلي الإنساني العادي، علماء الفيزياء أسهبوا في شرح الحقيقة العلمية من خلال تجارب علمية، حيث أثبتوا أن الموجات الضوئية لا تتحرك دائمًا في خطوط مستقيمة. أما عند الفلاسفة وهنا سأتطرق لديكارت، حتى يؤكد أن الحقيقة هي في تطابق ما نقوله وما نصل إليه من بداهات العقل ذاته.
لكن في حياتك هل فكرت ماهي الحقيقة المطلوب الاتجاه إليها والإيمان بمبادئها، لعله من المهم أن نتوقف جانبا و نفكر بديهيا في مسيرة أيامنا التي لا يزيد يومها عن أربعة وعشرين ساعة، وأسبوعها عن سبعة أيام، وشهرها عن ثلاثين يوما (كترميز وليس تحديدا هناك شهر بثمانية وعشرين يوما وشهر بواحد وثلاثين يوما) والسنة اثنا عشر شهرًا، أما تلاحظ أنني أحقق في حقيقة الزمن المعيش في الحياة حيث حسبت اليوم والأسبوع والشهر والسنة، ولن أغلبك لتحسب حساب الساعات والدقائق والثواني. ماذا يعني ذلك؟ يعني أن الأيام محسوبة وبأنها حقيقة ثابتة، طيب وهل هناك حقيقة ثابتة أيضا نعم إنها الحياة والموت، وساورد لك قوله تعالى كما في الآيتين الثلاثين والواحد والثلاثين من سورة الزمر: "إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ".
فيما سبق تأكيد إلهي لحقيقة الموت ولحقيقة البعث بعد الموت، إذن نحن أمام حقائق ربانية لاتقبل الشك، فهي ذكرت في القرآن الكريم.
للحقيقة عدة وجوه، ولها قرائن ولها أحيانا مقدمات وختاميات، لكن الحقيقة هي أننا نعيش ونتنفس ونقرأ ونأكل ونشرب ونمارس حياتنا برغم كل الشك حول الحقيقة.
سأسألك هل السؤال عن الحقيقة وتصورها له الأهمية بمكان أم أن القصة لاتزيد عن ترف فكري، وكاتب لم يجد موضوعا لمقاله فكتب هذه السطور!
الحياة بمجملها حقيقة، ولكنها حقيقة يختلط بها بعض الخيال، ليس كل ثابت هو في الحقيقة ثابت إلا في مخيلتنا، وما أكثر المثبوتات التي ثبت يقينا فيما بعد أنها لاتعد أكثر من مقولات شائعة!
الحياة تمضي وكل يوم هناك باحثون متميزون يبحثون عن الحقيقة في البحث العلمي والأدب والشعر والفنون والثقافة والعلوم الاجتماعية والإنسانية والنظرية والتجريبية ويسير على ذلك الدرب الكثير ممن أخذوا على عاتقهم التفكير والعمل لمستقبل أفضل للبشرية.
أخيرًا .. حتى في حياتك الخاصة، ليس كل ما يصلك هو الحقيقة، وليس كل ما تراه قد يكون صحيحًا، وما أكثر ماظننا شيئا ثم ثبت عكسه؛ لذلك أنشغل بنفسك بأسرتك بعملك بمستقبلك ولا تنشغل بالناس وأقوال الناس وأحوالهم، تأكد أنك قد تستطيع أن تضبط نفسك، ولكن هل باستطاعتك ضبط البشر حولك؟
فكّر جيدًا يا صديقي، وتذكر أن أمير الشعراء أحمد شوقي قال:
وَإِذا نَظَرتَ إِلى الحَياةِ وَجَدتَها
عُرسًا أُقيمَ عَلى جَوانِبِ مَأتَم