"الممرضة الصالحة"

 

عبدالله الفارسي

لم تسعفني قريحتي المُهلهلة المبعثرة في كتابة مقال حول واقعنا المتردي.. ولكن أسعفتني شاسة التلفاز بمتابعة فيلم جميل ولطيف وشيق، لذلك سأكتب لكم عنه بعض السطور.

"الممرضة الصالحة The good Nurse" عنوان لفيلم مستوحى من قصة حقيقية، عرضته إحدى منصات البث المرئي العالمية. يتحدث الفيلم عن ممرضة متفانية في عملها، واسمها إيمي، تعمل في قسم العناية المركزة بإحدى المستشفيات الضخمة. الممرضة مخلصة ومتفانية في عملها بشكل غير طبيعي وغير ملحوظ وغير ملموس أو مشاهد في واقعنا الصحي والحياتي.

الممرضة مُطلّقة ولديها طفلتان تعولهما، وتعمل لساعات طويلة في المستشفى لكسب قوت يومها، وطبعًا قسم العناية المركزة، من أصعب الأقسام في أي مستشفى؛ فهو مصدر للقلق والتوتر والإرهاق، لذلك كان القلق والإرهاق والتوتر رفقاء الممرضة الدائمين.

في زحمة عملها واشتداد ضغط العمل عليها، تم توظيف ممرض مساعد معها (تشارلي كولن)، وهو ممرض خبير جاء في الوقت العصيب والمناسب بالنسبة للممرضة إيمي.. أو هكذا بدا الأمر لها.

تشارلي شخص غريب جدًا، هادئ جدًا، وبارد كالثلج! يتكلم بهدوء وكلماته محدودة، ويعمل بجهد كبير وبصمت غريب. وقد أبدى رغبته في مساعدة إيمي وأظهر لها شهامته ونخوته في الوقوف معها وقت الشدة. أُعجبت إيمي بهدوء تشارلي دون أن يخطر على بالها إطلاقًا أن تحت هذا الهدوء شراسة وعنف، وتحت هذا الثلج نار ملتهبة وجحيم يغلي.

لم تعتقد إيمي أبدًا أن هذا الرجل الهادئ الطيب الخدوم هو عبارة عن قاتل متسلسل يقتل ضحاياه بكل هدوء ورقة ومهارة وسلاسة. مرَّت الأيام طبيعية وجميلة مع إيمي وطفلتيها وبدخول تشارلي في حياتها شعرت بالارتياح وتنفست الصعداء ووثقت في الحياة من جديد.

بعد حادث موت اثنتين من المريضات في قسم العناية المركزة بدأت إيمي تشك في الأمر، ولكنها للأسف لم تشك في أن تشارلي له علاقة بهذا الوضع المفاجئ.

ولأنها ممرضة تتمتع بذكاء وسرعة بديهة لاحظت في تقرير فحص الدم للمريضتين، أن كلاهما تناولت الأنسولين ومادة أخرى، وهذا لم يكن مقررًا لهما ضمن جرعتيهما الدوائيتين، وتلك الجرعات البسيطة كانت سبب الوفاة.

فبدأ السؤال يقره رأسها: من الذي أعطى هذا الدواء لهاتين المريضتين الضحيتين؟

وبدخول محققين ماهرين إلى المستشفى ومتابعة قضية وفاة المريضتين بدأت تنكشف بعض الأمور عن حقيقة الممرض تشارلي وبدأ البحث في ملفه السابق، وهنا بدأ قلب إيمي يضرب بقوة وبدأت تفتح عينيها على اتساعهما، حتى استطاعت اكتشاف صلته الوثيقة بوفاة المريضتين السريع.

عرفت إيمي من المحققين أن تشارلي الهادئ، البارد كالثلج ليس كذلك، وأنه سبق أن طُرد من 8 مستشفيات سابقة ولكن لم تتم إدانته بأي جريمة قتل.

 

ورغم هلع إيمي من تشارلي إلا أنها استطاعت الولوج إلى البرنامج الحاسوبي للمستشفى والعثور على أدلة تثبت تورط تشارلي في استخدام الأنسولين وتهريبه من مستودع الأدوية بطريقة ذكية واستخدامه في حقن المرضى بطريقة أكثر دهاء وخبثا.

المثير في الفيلم هو إخلاص الممرضة إيمي وسطوة جانبها الإنساني والخيري على سلوكها والذي تغلب على خوفها وهلعها من تشارلي فوقفت بجانب المحققين لكشف حقيقة زميلها المجرم.

استطاعت الممرضة المنهكة المتعبة من عملها الخائفة على فقدان وظيفتها ومصدر رزقها أن تسيطر على كل أحاسيسها ومتاعبها.. فتجاوزت قوانين المستشفى وتعاونت مع المحققين وهي ترتجف خوفًا وهلعًا على طفلتيها من تشارلي الذي استطاع الوصول إلى بيتها والجلوس مع طفلتيها وكأن شيئًا لم يحدث.

استطاعت إيمي مقاومة الخوف من تشارلي ومن إدارة المستشفى؛ فهي الممرضة الوحيدة في المستشفى التي تعاونت مع المحققين من أجل الحقيقة، واستطاعت في النهاية انتزاع اعتراف ثمين من تشارلي بمقتل عشرات المرضى في مسيرة مهنية عبثية مثيرة للجدل والغرابة.

الفيلم يقدم لنا شخصيتين متناقضتين تمامًا، شخصية مخلصة خيرة رحيمة، وهي شخصية إيمي الممرضة الصالحة، والتي طغى الخير على روحها، والتي كانت تستمتع بالأشياء البسيطة الشحيحة من المتعة والسعادة التي تمنحها لها الحياة في تقسيط مبتسر وضيئل. وشخصية تشارلي القاسية العنيفة المثيرة للجدل العجيبة والغريبة وأداء الممثل لهذا الدور بكل احترافية وإتقان؛ فهو ممرض ماهر وذكي جدًا يلبس لباس الملائكة، يقتل مرضاه الأبرياء بكل هدوء وهو يبتسم.

وبغض النظر عن جرائم الممرض تشارلي متناهية الدقة والدهاء، فهنا أيضًا لدينا جرائم سببها الجهل والغباء. وهناك كثيرون من أمثال تشارلي يلبسون البياض ويتوشحون بالجمال والأناقة ولكنهم يقتلون العشرات من الناس في لحظة واحدة ليس بحقنة أنسولين زائدة؛ بل بجرة قلم صغيرة تافهة.

فمهما اختلفت الوجوه وتعددت الطرق وأساليب قتل البشر؛ فالموت واحد!

الفيلم يرسل للمشاهد رسائل مكثفة ومركزة وواضحة بالانضباط التام في كل شيء.. انضباط الممرضين.. وانضباط الإداريين في المستشفى.. وانضباط المحققين في تحقيقاتهم. إنه عالم متكامل من الدقة والانضباط والإخلاص نفتقده للأسف في مؤسساتنا.

الفيلم رائع جدًا ويستحق التسمر والبحلقة والمشاهدة حتى التِتْر الأخير.