المقامة العربية

 

سعيد المغيري

 

الفقرة الثالثة

 

 وبعدما دارت على ابن المهاب أيام، كان فيها بشوشاً وبسام. بعدما جال في دمشق وحام، أصبح ذات يوم جديدٍ على رسالة وصلته من بعيد. أُرسلت إليه عن طريق البريد. ففتح مسلم الظرف وهو سعيد، وكان لا يكف عن الترديد: "هلا بالأجاويد، هلا بالصناديد."

 

للرسالة كان ابن المهاب منجذب، لما كُتِبَ فيها بشكل مهذّب حوى كل طيبٍ وعذب.

 

وحين وصل مسلم إلى فقرة تقول: "يا شيخنا المجرّب، يا أخا العرب: إني عن السمَر مُضرب، وإني لا يطيب لي المشرب وأنت بعيد عن المغرب. فمتى سنسعد بليالي الطرب؟ ونحستي حتى ثمالة القرب؟"

 

 قال مسلم: "والله معرفتكم مكسب. ولزياتكم ألفُ ألفِ سبب."

 

فطوى مسلم المكتوب، وقال: "يا مولاي: إني أتوب عن هجري للمحبوب. أفنيت ردحا من الزمن وأنا أجوب أراضي الشمال والجنوب. حتى نسيت من كثرة الترحال، وكثافة الأعمال، من رمى قلبي بالنبال، وسكن في خاطري وجال.

 

عندها قال ابن المهاب -وبه شيء من الطرب-: "يا ساكني القلب، ومالكي اللّب: شوقكم غلب، وهواكم سلب، حتى صار قصدكم أعزّ الطلب." 

 

ثمّ قام ونفض عنه التعب وهمهم يحادث نفسه بعتب: "يا من حزتم أعلى المراتب: مسلم نادم، وعن هجركم تائب."

 

 

ولم تمضِ سوى أيام، طار بعدها مسلم بسلام، بقلب كله اضطرام، وعقل استحوذ عليه الهيام.

 

وبينما كان يدندن مسلم بأنغام كانت عراقية المقام، جاءه صوت ناعم كالحرير، عذب كالخرير: "الله بالخير! بصراوي يا أمير؟"

 

فقال مسلم بصوت سكير: "نعم يا طير. فأنا عيناك يا حسناء، هما وطني والانتماء."

 

فتبسمت الفتاة بحياء، فبانت وجنتين بلون الصهباء، وعينان ألمع من الضياء. وبالكاد تصنعت الاستياء حين سألها مسلم بدهاء: "كأنك يا سمراء من الفيحاء!"

 

فقالت: "نعم! البصرة بلادي التي فيها وُلدت. ولكني ببغداد ترعرعت وعشت."

 

فقال ابن المهاب: "أهلا بمن بجوار دجلة بات، وشرب من ماء الفرات." ثم أردف قائلا بصوت مختلف: "أسأل الله لكم الثبات، ولأعدائكم الشتات، يا أهل دجلة والفرات. للحرب والدمار آلات وآلات، وعدوكم يرجوا لكم الممات وحمل بلادكم على الرفات. فدعوا عنكم السبات، وابذلوا المال والذات؛ فإن الأوان ما فات، والنصر لابد آت." 

 

وهكذا للحديث فُتحت قناة بين مسلم والفتاة. فبدأوا الحوار بمواضيع منتقاة، ثم ذكروا سيرة الولاة والطغاة. وهكذا سرد مسلم قصص العراق، بأسلوب جاوز الآفاق وجلب الأشواق. فذكر الميادين والأسواق، وكيف كانت الأذواق وأعراق الناس والأخلاق. حتى بان حب من الأعماق، يكنّه مسلم للعراق. 

 

وحين سُئل عن بعض الحكُّام، وبالتحديد ذُكر صَدّام، لم يرغب مسلم بالصدام، وفضّل حديثاً يبدأ ويُختم بالابتسام. فلم يصرّح بوضوح في الكلام. وقال: "صدام لن تعرف حقيقته من الإعلام، ولم تنصفه الأقلام. قالوا إنه شجاع مقدام، وقيل إنه ورّط البلاد بالإقحام في حروب سببت الاصطدام. ومع كل ما قيل من كلام، هو لا شك محلٌّ للاهتمام، ومثيرٌ للجدل على الدوام."

 

وهكذا تحاور الاثنان بحديث منقوش هز مشاعرهما كما تهتز الأرض تحت أقدام الجيوش. حينها نزع مسلم عن رأسه الطربوش، وهمهم بينه وبين نفسه قائلا: "عيناه استوتا أجمل العروش، حين أحيطتا بتلكما الرموش."

 

وبينما كان ابن المهاب من الهوى عقله يطوش، قال جاره ذو الوجه البشوش: "يا أخت هست عرنجوش؟"

 

فالتفت مسلم نحو ذاك الرجل بوجه مدهوش، وقال: "خوش يا البحريني خوش، طريقك بالورد يا حبيبي مفروش."

 

ساد الهدوء أرجاء الطائرة التابعة للطيران الليبي، وعندما بلغ الصمت كل جانب قصي، بغفلة خُرق السكون برنين منبه صوتي، تبعه صوت من طرف خفي يقول: "حان وقت الهبوط التدريجي."

 

وهكذا في مطار "طرابلس العالمي ودّع مسلم ذات الوجنتين بعدما تعانقا طويلا بالعينين وتواعدا باللقاء ولو بعد أعوام وسنين.

 

ثم قال لها: "صحبتك يا آنسة حلوة، أحلى من كل غنوة، دامت بلادك حرّة، ودمت أنت درّة، تنعمين بأمن بحر العراق وبرّه."

تعليق عبر الفيس بوك