ثورة "النودلز"!

 

الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو)

يكاد لا يخفى على أحد أنَّ عالمَ ما قبل "النودلز" (أو "الإندومي" باعتبارها التسمية الأشهر لهذا المُنتج سريع التحضير)، مُخلتف تمامًا عن العالم بعد اختراعه.. ففي العام 2002 أجرى معهد فُوجي استطلاعَ رأي؛ سأل فيه 2000 شخص من طوكيو، عن أعظم اختراع اخترعه الإنسان في القرن العشرين في السلع المُصنعة والثقافة والتكنولوجيا، ويتم استهلاك أكثر من 100 مليار عبوة منه في السنة الواحدة.. فكانت الإجابة "النودلز".

ولكن ما هي قصة النودلز؟ وما سبب انتشارها المرعب؟ وما علاقة النودلز بالأحوال الاقتصادية والظروف المعيشية؟ ولماذا يقلق الاقتصاديون من زيادة استهلاك النودلز؟

(1)

بعد هزيمة اليابان بالحرب العالمية الثانية واستسلامها للحلفاء، وكحال كل الحروب بما تخلفه من دمار وقتلى، كانت مأساة اليابان أنْ تمَّ تدمير 40% من المناطق الحضرية، وتشريد 30% من الشعب.. فيما كانت الشوارع مزدحمة بالجنود والأرامل والأيتام وكبار السن، بلا مأوى أو طعام. وكان من بين الأشخاص الذين شهدوا هذه المأساة رجل يُدعي "مونوفوكو اندو"، وُلِد في تايوان في العام 1910م، وذهب إلى اليابان في 1933م، وعمل في جميع الأعمال التي كانت متاحة وقتها، لكنه فشل فشلاً ذريعا في الاحتفاظ بعمل، إلى أن لعبت الصدفة دورها في العام 1957؛ حيث وفي أحد شوارع "أوساكا"، لاحظ طابورًا طويلًا من العمال أمام "كشك" يبيع طبقاً من المعكرونة.

(2)

مشهد تجمهر هذه الجموع الغفيرة في انتظار طبق من المعكرونة غيَّر العالم، إذ دفع ذلك "أندو" للتفكير: كيف يمكن  أن يصنع المعكرونة بطريقة مختلفة، بحيث تباع بسهولة دون زحام؟ ومن هنا انطلقت التجارب لمدة عام، إلى أن توصل إلى اختراعه العبقري "تشيجن رايمن". وفكرتها بسيطة بعد انتهاء مرحلة العجين يتم تجفيفها من خلال القلي ومن ثمَّ تعبئتها، وتصبح صالحة للاستخدام لمدة طويلة وكل ما تحتاج إليه هو الماء الساخن والبهار فقط، ومن هنا بدأت ثورة (Instant Noodles) المعكرونة سريعة التحضير.

وقد تمكنت شركة (NISSIN) -والتي يملكها "أندو"- من بيع ما يقارب الـ13 مليون عبوة في السنة الأولى، وفي غضون 12 سنة وصلت مبيعات الشركة السنوية إلى 3.6 مليار ين ياباني.

 (3)

وفي العام 1966، كان أندو في زيارة لأمريكا وأوروبا، ولاحظ أثناء زيارته لأمريكا أن المستهلكين يشترون النودلز ويضعونه في كوب، ويضعون فوقه الماء الساخن، لتقفز إلى ذهنه فكرة النودلز في كوب، ولكن في تلك السنة وفي بلد آخر يبعد عن اليابان ألفا وأربعمائة كيلو متر، إنها إندونيسيا، فأطلقت شركة أغذية أندونيسية (Indofood) منتجا من المعكرونة سريعة التحضير اسمه "النودلز"، وبنفس مواصفات النودلز، واستطاعت الشركة تسويق "النودلز" داخل وخارج إندونيسيا، وتفوقت على الشركة الأصلية صاحبة الاختراع. حيث تخطت القيمة السوقية العالمية للشركة الإندونيسية في العام 2019م حاجز الـ44 مليار دولار، وقد أسهمت تلك الصناعة في تعزيز قدرة إندونيسيا على خلق ما يعرف بـ"القوة الناعمة"؛ ففي دراسة نُشرت في العام 2021م تحت عنوان "دبلوماسية القوة الناعمة الإندونيسية من خلال "النودلز"، أشارت باحثة إندونيسية إلى أنَّ صادرات إندونيسيا من المعكرونة سريعة التحضير "نودلز" وصلت إلى أكثر من 80 دولة في العالم، إضافة لمصانعها الموجودة في العديد من دول العالم. الأمر الذي اعتُبر وكأن "النودلز" أداة دبلوماسية يستخدمها الإندونيسيون في تمتنين علاقتهم مع الخارج.

المدهش في حقيقة الأمر أنَّ المنتج نفسه (المعكرونة سريعة التحضير) لم يخترعه الإندونيسيون، ولا حتى يملكون المواد الخام اللازمة لتصنيعه!!!!!

 (4)

وفي الوقت الراهن، فإنَّ "النودلز" ليست بمنأى عن ما تشهد الساحة السياسية الدولية من تداعيات على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية، حيث بات القلق مشروعًا مع ارتفاع سعر القمح أن ترتفع أسعار "المعكرونة سريعة التحضير"؛ فاليوم يُعتبر "النودلز" من أكثر الأطعمة استهلاكًا في العالم؛ ففي العام 2020م وصل استهلاك العالم إلى 116 مليار عبوة من المعكرونة سريعة التحضير، وكان الصينيون الأكثر استهلاكًا بإجمالي 35.46 مليار عبوة، يليهم الإندونيسيون بـ12.64 مليار عبوة، وأمريكا 5 مليارات عبوة. بينما في الوطن العربي، فتصدرت المملكة العربية السعودية قائمة الأكثر استهلاكًا لـ"النودلز" بـ830 مليون عبوة، ثم مصر 350 بمليون عبوة، وذلك خلال العام 2020 فقط!!!

إنَّ هذه الأرقام والإحصاءات تعكس حقيقة أن "النودلز" باتت جزءًا مُهمًّا من العادات الغذائية، وبالأخص للطبقة المتوسطة والفقيرة، فهي وجبة سريعة ورخيصة ولذيذة مقارنة بوجبات أخرى؛ لذا يُقبل عليها الكثير من ذوي الدخل المحدود، وبالأخص في أوقات الأزمات الاقتصادية.

(5)

وبعيداً عن كل الأسباب الاقتصادية والدخل والإنفاق ومؤشراتهما عن المستوى المعيشي ومستويات الاستهلاك الكبيرة لـ"المعكرونة السريعة التحضير" في السنوات الأخيرة، ونزولا عند رأي عالم الإدارة الياباني الشهير (Kenichi Ohmae)، فإنَّ هذا الكم الهائل من الاستهلاك لـ"النودلز" يعود لظهور "المجتمعات منخفضة الرغبة". وهي المجتمعات التي يسيطر فيها حالة من الإحباط وانعدام الطموح لدرجة يفقدون معها الرغبة في تحسين مستوى معيشتهم؛ فيصلون لمرحلة من الاستسلام لفكرة أنَّ مستواهم المادي لن يتحسن، وبالتالي يفقدون الرغبة والحافز للحصول على الكثير من الأشياء، وفي هذه الظروف يميلون لاستهلاك وجبة رخيصة وسهلة التحضير مثل "النودلز"؛ وعلى ما يبدو أنَّ هذا سبب تسمية هذه الوجبة في المكسيك بـ"شوربة الكسالى".

(6)

إنَّ الدول قد تمتلك العديد من مصادر الثروة والكنوز ووفرة في العدد البشري، ولكن يبقى الأهم من العدد هو جودة تلك الموارد؛ فماذا يعني أن يكون في العام أكثر من مليار شخص في سن العمل، ولكن يُعانون من عِلل صحية.. فالدراسات أثبتت أنَّ المشاكل التي ترتبط بـ"المعكرونة سريعة التحضير" قد تتعدَّد، وقد تكون ناتجة عن فقر في المادة أو الوقت أو الوعي، ولكنها تظل تعطي بالتأكيد مُؤشراً أو بعدا آخر عن مستويات الرغبة البشرية، فهل هذا يعني أننا على أعتاب انهيار "النودلز" وصعود ساحق للرغبات المهمشة؟ أم أننا على أعتاب ثورات قادمة تسبقها انهيارات؟