يحدث منذ القِدم!

 

سعيدة بنت أحمد البرعمية

 

لن أجد قارئا أو مستمعا جيدا يتقبّل منّي جملتي التي عنوتُ بها مقالي "يَحْدثُ منذ القِدمْ" لكنها استطاعت أن تعنونه؛ وتسطو بوقاحتها على ذائقة القارئ؛ فأكثرت في عجرفتها من المساس بعظمة اللغة وأوضحت الكثير من جهلي المتواتر بالضاد، مثلها تماما كمعظم التغريدات التي تصل إلينا عبر تطبيق تويتر، نقرأها؛ فتستفز ذائقتنا الفكرية قبل اللغوية؛ فتفصح عن خواء المُغرّد وجهله بما يتناول من طرح يُثير به الجدل عوضا عن طرح فكر مُنير، لا شك أننّا في زمن وصل فيه كلّ شيء، المؤذي قبل المفيد والفارغ قبل الممتلئ!

الملفت مؤخرا التغريدات حول الإحداثات في منطقة الحافة، فالمفارقة العجيبة أنّ الكثيرين ممّن شنوا اعتراضات على شكل السوق القديم وخُلُوه من مظاهر الابتكار منذ أشهر، يعترضون الآن على تغيير المسمى التاريخي للسوق، لا أدري بأيّ عدسة ينظرون للأمور!  

سؤالي لمن يعدّ نفسه موكلا بالتنوير في تويتر: لِمَ ولِمنْ تُغرّد، هل ترى فكرك جديرا بالتأثير على الآخرين؟!

هل عندما ترفع هاشتاج يتصدر الترند لأيام متتالية مؤثرا به على المنجرفين خلف تيارك؛ كالقطيع، تعترض وثير الرأي، ترى في نفسك مثقفا أو متطلّعا لمستقبل باهر!؟    

هناك بالتأكيد فرق بين الفعلين "عاشوا" و"نعيش" وبما أننا نعيش فنحن نطمح ونتطلّع ونتقدّم ونؤمن برؤية القائد وأولي الأمر لخلق حاضر يصنع الفارق، من الطبيعي جدا الوقوف على عتبة الأجداد والانطلاق منها، ولكن من التخلّف والجهل الوقوف عليها دون سعي للتغيير والإحداث فيها.

لقد أجاد الأجداد تأسيس عتباتهم؛ فاتسعت لهم ولمن معهم، وطال بها المدى إلى أن شملتنا مع بقية نسلنا، فملأنا الرضا وحظيت بجلّ عنايتنا وأوصلنا الأمر إلى رفضنا الإحداث فيها؛ فاستطاع ذلك الفكر تجميد أيدينا وتخدير الفكر لدينا حتى كاد أن يسلب الكثير من هوية الحاضر والاكتفاء ببصمات الأجداد وتحنيطها ووضع أيدي الأجيال الجديدة داخل القفاز؛ عرفانا منّا لهم وجهلا بأنفسنا وبحاضرنا.    

ابتكر الأجداد قديماً ما يسمى الآن بالتراث؛ فبدلا من أن يقتدي بهم الأبناء في ابتكارالحاضر اكتفوا بالنظر للموروث ولقنوا الأبناء والأحفاد المحافظة عليه حتى كاد أن يصل شعبة من شعب التقديس؛ فتوارت الروح الخلاقة خلف الروح التقليدية، بالرغم من وجود من يُدرك أنّ وقوفه خلف قضبان الماضي لن يخلق منجزات تسمو بروح ابن المرحلة الحديثة. 

إنّ عشّاق الفعل المضارع لا يركنون للخمول في الزوايا المظلمة، فهم يؤمنون بأنّ الفعل "يَحدثُ " تفوق قوته قوة الفعل "حَدَثَ"؛ فعلامة رفعه دالة على علوه واستمراره مشيرا بيقين إلى أن القادم أفضل وأنّ الماضي يظل مبنياً على ما تمَّ بناؤه عليه؛ لذا فإنَّ من يؤمن بمعجزات المضارع لن ينساق خلف ترند يردم الأمل في قبور الغلو؛ فلا يعقل التطلّع لرؤية 2040 والتصويت لسمية السيابية للفوز بلقب نجمة العلوم، والمناداة في الوقت ذاته بالجلوس تحت مظلّة الفعل الماضي، والاعتراض على مُسميات يدرك العاقل أنَّ تغييرها لا يغير من الوجود شيئا؛ فالمسميات تتغير ويبقى المكان نفسه يفوح بعبق الماضي وينبض بروح العصر، له أصالته ويتحدث عنه حاضره.

أعرف الكثير من الأشخاص الذين غيروا عن قناعة أسماءهم بدلاً من الأسماء التي اختارها لهم آباؤهم، لم يغير الاسم الجديد من نسبهم ولم يُقصِ وجودهم، كذلك بعض المدن التي تم تغيير مسمياتها وفق أحداث سياسية ووفق رؤية قادتها، على سبيل المثال "يثرب" التي تمَّ تغيير اسمها إلى المدينة المنورة عاصمة الدولة الإسلامية في عهد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

إنّ المضارع كفيل بتغيير المسميات والأحداث والأقوام، وفق تحديثات زمنية تؤثر بدورها على المكان والثقافة والفكر؛ فلكل مرحلة تاريخها ومسمياتها وطرازها المعماري ودورها الحضاري وفق التطورات والمتغيرات؛ فالتقوقع في ظل الماضي يسلب الحاضر هويته ليمنحه صفر درجة من التقدّم؛ فالجد قديماً لم يكن يغرد ولا يقرأ الكتب ولا منفتحا على بقية الحضارات ولم يتضجّر يوما من حدوث عطل عارض يصيب الواتساب بضع ساعات؛ لكنه كان يعمل بعيدا عن كلّ مؤثرات "الرأي"؛ فوضع من خلال عمله حجر الأساس لرأيه، مؤمنا بصناعة حاضره في زمن ما.

النظر للأفق لا يتطلّب المشي بثبات على خارطة طريق الأجداد، ولا تغريدات من الشحن المغناطيسية تتجاذب أطرافها أو تتنافر، إنما العمل لخلق مرحلة ابتكارية لا تقليدية.