د. عبدالله باحجاج
التساؤلات لم تعُد موجهة للمسؤولين في الحكومة، بمعنى أنَّ بوصلتها قد تحولت بالنسبة المئوية الكاملة، جوهرًا وشكلًا، وبات مكانها الآن فوق الطاولة السياسية بعد حالة التفرج على الصرخات الاجتماعية، وفي ظل استمرار السياسات والقرارات المتتالية التي تمس أساسيات معيشة المجتمع، وارتفاع الأسعار بصورة عامة، وسنطرح هنا تساؤلات موضوعية حسب سياقات التحليل الذي نتطلع من خلاله لتقديم مجموعة حجج مقنعة تبرر تحويل مسار التساؤلات.
التساؤل الأول: هل لدينا دراسة للانعكاسات البنيوية للمسارات التالية: (التسريح- التقاعد الإلزامي- تخفيض المرتبات- الحد الأدنى للأجور عند 325 ريالا- عدم الاعتداد بالمؤهل التعليمي في تحديد الأجور- العقود المؤقتة بآجالها الزمنية المختلفة "شهر شهران، سنة سنتان"- الضرائب وفرض الرسوم على الخدمات- وقف الترقيات- موجة الغلاء وتوقعاتها المستقبلية- والقائمة عريضة.
من حيث المبدأ، فإنه يفترض أن تكون هذه الدراسة الآن متوافرة لدى الحكومة أو عند مؤسسات أخرى مهتمة بمستقبل الاستقرار في البلاد، ويُفترض كذلك أنها الآن فوق الطاولة السياسية تناقش الإصلاحات والتصويبات اللازمة لتفادي السلبيات العميقة داخل المنطقة الاجتماعية، وذلك لحساسية هذه المنطقة بطبعها، ومدى تأثرها بأي مُتغير غير محسوب نتائجه في مرحلة سيتكرر فيها تأثير البعد الخارجي على الشأن الداخلي، وسيجد الداخل مواتيًا للتفاعل معه.
لكن الواقع، لا يبدو أن هناك فعلًا دراسة، وإنما هناك خطط مالية صرفة ترسم بفوقية عالية، لا تعرف إمكانيات المجتمع، ولا ماهية سيكولوجيته، لكنها- أي الخطط المالية- تُحقق لخزينة الدولة فوائض مالية مثالية، لا تعكس ما تحطمه من أبعاد اجتماعية، ولا ما تصنعه من آلامٍ اجتماعية، ولا تأثيرها على مستقبل الاستقرار الاجتماعي وتوازناته، وستظل السياسات والقرارات يُقذف بها داخل المنطقة الاجتماعية دون الاعتداد بانعكاساتها الاجتماعية، كما لا يبدو أن هناك مدى تقديريًا أو كميًا لعلميات استهداف المنطقة الاجتماعية.
التساؤل الثاني: ماذا من ملفاتٍ فوق الطاولة السياسية الآن؟
الاهتمام ينصبُ الآن على إصدار منظومة متكاملة لحماية أصحاب الدخول المتدنية فقط، والمعيار الحاكم لأصحاب هذه الفئة لن يتجاوز 325 ريالًا وهو الحد الأدنى للأجور أو 400 ريال المعيار الذي تم اعتماده لاستحقاقات المستلزمات المدرسية ومصروفاتها، فقمّة الاهتمام تنصب الآن على دعم هذه الفئة وحمايتها من موجة غلاء الأسعار وتداعيات السياسات والقرارات الحكومية.
ومهما كانت منظومة الحماية لهذه الفئة، وحتى لو افترضنا أنها ستؤمن المأكل والمشرب واستحقاقات السكنى الأساسية الأخرى كالكهرباء والماء والإنترنت مثلًا رغم خيالية الافتراض هنا، فما قيمة تلك الدخول في حقبتنا الزمنية الراهنة؟ علمًا بأن هناك دخول دون تلكم المستويات، نعرف من خلال تموقعنا الاجتماعي فئات كثيرة دخولها عند 170 و200 و250 ريالًا، بعد أن تم إحالتها للتقاعد الإلزامي، فلم تُبق لها البنوك سوى تلك المبالغ الزهيدة رغم أنها تعيل أسرة تضم باحثين عن عمل وأبناء في المدارس.. إلخ. أعرف أحدهم معرفة الصداقة التي تأسست بحكم الروابط المكانية، ونقفُ عن كثب على التحولات السلوكية التي طرأت على شخصيته، فالليل يستوي عنده مثل النهار، وهو دائم الكلام والصراخ عن مآلات هذا الزمن، وهذه مجرد حالة نموذجية، ومدى شموليتها يمكن التوصل إليه من خلال الصرخات التي تعج بها وسائل التواصل الاجتماعي بصورة متصاعدة التي يستجدي الكثير منها حقوقه الأساسية.
لذلك نرى أن ملف منظومة الحماية المتكاملة لفئات الدخول المتدنية/ المحدودة، لا يجب أن يكون الملف الوحيد فوق الطاولة، وبالذات الآن بعد الفوائض المالية الناجمة عن ارتفاع أسعار النفط والغاز وعن منظومة الضرائب، وكل المؤشرات تشير إلى أن أسعار النفط قد تظل في ارتفاعها، مما يتيح للحكومة تخصيص جزء منها لتصحيح ما أحدثته سياساتها المالية وقراراتها من شقوقٍ في المنظومة الاجتماعية، والتركيز في الوقت نفسه على القطاعات الإنتاجية عوضًا عن أعمال الفكر الجبائي، وجعله هو الخيار وليس القطاعات الإنتاجية.
لن يتحمل المجتمع كثيرًا خيار الجبايات، ولدينا إحصائية حديثة تُبين معضلة الرواتب التي حدثت خلال آخر سنتين فقط، والرجوع إليها يكشف الأعداد المقلقة للمواطنين على مرتبات متدنية، وهى إحصائية رسمية ينبغي أن تكون أيضًا فوق الطاولة السياسية، فهي لوحدها دالة على الوضع الاجتماعي العام ومستقبله كذلك، والإشارة إليها هنا تُسكت الأصوات التي ستظهر وتتهم المقال بالمبالغة والتضخيم، وحتى في هذه الحالة لا تسقُط أهمية الدراسة لأنها توضح مثلًا كم مواطن قد حُجز على منزله بعد تسريحه، وكيف يعيش الكثير من المُتقاعدين الآن، وعن خطورة قضية الباحثين عن العمل... إلخ.
من هنا، ينبغي أن تكون فوق الطاولة دراسة عاجلة ومستقلة توضح تأثير تلكم المسارات على المجتمع الآن وفي الأجل المتوسط، ومدى تقاطع الأبعاد الخارجية معها، ولماذا الأجل المتوسط؟ لأن المتأمل في الشأن الدولي والإقليمي سيخرج منه برؤية تجدد الأزمات الداخلية وعبورها الحدود السياسية، وأية دولة تدرس خياراتها بعقلانية وواقعية وبصورة منتظمة، سيكون داخلها في منأى عن التأثير الخارجي؛ سواء كان نتيجة سياسات داخلية أو نتيجة تقاطع الشأن الداخلي مع أجندات دولية قد أصبحت تجاهر باستهدافها منطقة الخليج، وتفتح بعض العواصم الخليجية الأبواب لها، فهل تلكم المسارات الناجمة عن السياسة المالية تصنع مجتمعًا قادرًا على مُواجهة التحديات؟
ولنا في تحويل وزارة الخارجية الأمريكية برنامج المِنح لدعم نشر الالحاد في المنطقة نافذة صغيرة، غير الأجندات الأجنبية التي أصبحت لها مقرات ومراكز دائمة في عواصم إقليمية، وكفى بهذا الهاجس الإقليمي حجة لدعم طروحاتنا السابقة، خاصة بعد ما اعتمدت استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة التي نشرت مؤخرا حقوق الإنسان كأحد أهدافها الاستراتيجية في المنطقة، وقد أصبح لواشنطن في كل عاصمة عربية وخليجية أصدقاء، تطلق عليهم اسم "أصدقاء أمريكا" سيكونون أدواتها التي تحركهم لتنفيذ أجنداتها.
التساؤل الثالث: ماذا يُتوقع من انعكاسات اجتماعية لأكثر من سنتين على تبني سياسات مالية مؤلمة نصنفها الآن بعد وقوفنا على تداعياتها باعتبارها من "الراديكاليات الخشنة" ومن البديهيات أن تكون لها تداعيات اجتماعية، وأخرى قيمية.
التساؤل الرابع: هل ما ظهر من تداعيات السياسات المالية حتى الآن يدخُل في نطاق توقعات المخططين لتلكم السياسات والمسارات؟ وهنا ينبغي أن أكشف سرًا صغيرًا جدًا لدواعي الاستدلال به. ففي لقاء استغرق أربع ساعات مع مسؤول حكومي رفيع كان أحد تساؤلاته لنا: هل فعلًا هناك مسارات تُنتج الفقر في البلاد؟ وتساؤله نسخة حرفية لمقال لنا نشر في حينها بعنوان "مسارات تنتج الفقر في بلادنا". والإجابة على التساؤل، وما جرى في اللقاء يُبيِّن لنا قضية الاعتماد المطلق على التخطيط المالي دون روحه الاجتماعية، بدليل أن لغة الأرقام المالية المجردة أصبحت السائدة الآن، رغم أن عودة وزارة الاقتصاد كان ينبغي أن تدافع عن الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية، وأن لا تترك لوزارة المالية منفردة إعادة تشكيل المجتمع بأفق مالي خالص.
وأخيرًا.. يمكن القول إن الاهتمام باستدامة ميزانية الأسر لا يقل شأنًا عن الاهتمام باستدامة الموازنة العامة للدولة، فالأولى تصنع الاستقرار الاجتماعي للبلاد، والثانية تصنع الاستقرار المالي للبلاد. لذلك، طبيعة المرحلة الوطنية لبلادنا الآن تستوجب عقلنة السياسات المالية وإعادة تصويب تداعياتها بعد حالة الاطمئنان المالية ومعرفة ما قد يحدث في أسوأ الاحتمالات- لا قدر الله- وقد تجاوزنا مرحلة صدمة انهيار الأسعار النفطية، وصدمة انكشاف حجم المديونية، لكن سياسات امتصاصها ما زالت قائمة، وكأننا لم نخرج من مربعها الأول، ولا بُد من العمل بذكاء على فك الخناق الاجتماعي سريعًا، لدواعٍ داخلية وإقليمية، وكل هذه التساؤلات وتعقيباتها الموضوعية نضعها الآن فوق الطاولة السياسية لأنها تحتاج لقرار سياسي.