خطورة قوة الدولار

 

علي الرئيسي **

 

سعر صرف الدولار وصل لأعلى مستوى منذ عام 2000 أمام مُعظم العملات؛ إذ ارتفع الدولار مُقابل الين الياباني بنسبة 22 بالمائة، و13 بالمائة مقابل اليورو، و6 بالمائة مقابل عملات الدول الناشئة منذ بداية العام الجاري، وهذا الارتفاع الحاد في قوة الدولار خلال أشهر قليلة له انعكاسات اقتصادية كُليّة على مُعظم دول العالم، حسب دراسة لصندوق النقد الدولي، وذلك بسبب الدور المُهيمن الذي يلعبه الدولار في التجارة الدولية والتمويل.

ورغم أن حصة الولايات المتحدة من التجارة العالمية للسلع انخفضت من 12 بالمائة إلى 8 بالمائة منذ عام 2000، إلّا أن حصة الدولار في الصادرات العالمية ظلت مستقرة في حدود 40 بالمائة! لذلك بالنسبة لمعظم البلدان، فإن خفض نسب التضخم مع ضعف صرف عملاتها أمام الدولار، يجعل من عملية إدارة التضخم في غاية الصعوبة. وحسب دراسة الصندوق، فإنَّ 10 بالمائة ارتفاعًا بالدولار تتسبب في زيادة التضخم بنسبة 1 بالمائة. والأمر يكون أكثر وضوحًا بالنسبة للأسواق الناشئة، وذلك نظرًا لاعتماد هذه الدول بصورة أكبر على الاستيراد، وأيضًا حصة أكبر من وارداتها تتم عبر الدولار، مقارنة بالدول المتقدمة.

إنَّ قوة الدولار تُشكِّل مُشكلة لمعظم دول العالم، وبالذات للدول ذات المديونية؛ حيث إن قدرتها على سداد قروضها الدولارية تصبح أكثر تعقيدًا وبالذات الدول الفقيرة والمتوسطة الدخل. ومعظم ديون الشركات مملوكة لمستثمرين أجانب ومقومة بالدولار الأمريكي؛ لذلك تصبح خدمة الدين أكثر تكلفةً وأصعب في السداد حينما يرتفع سعر صرف الدولار أمام العملة المحلية. وحتى عندما يكون الدين الخارجي بالعملة المحلية؛ فهبوط سعر الصرف المحلي يمثّل مشكلة. والمؤسسات المالية الأمريكية تواجه أيضًا خسائر جراء استثماراتها  الخارجية، مما يدفعها نحو التخارج من أصول الأسواق الناشئة، الأمر الذي يزيد من انخفاض قيمة العملات المحلية أمام العملة الأمريكية.

ونظرًا لأن أسعار السلع مقوّمة بالدولار، فإن قيمة الواردات ترتفع عندما تنخفض العملات المحلية، وهذه الديناميكية تؤدي إلى زيادة التضخم، وهو آخر أمر تسعى إليه الحكومات حاليًا. لذلك نرى عددًا كبيرًا من البنوك المركزية تتدخل في سوق العملات، مستعملةً احتياطاتها من الدولار لشراء ومساعدة عملاتها المحلية. غير أن معظم أذون الخزانة التي تُباع ينتهي بها المطاف في الأسواق المالية الأمريكية، والتي تضيف إلى زيادة العرض من أذون الخزانة، وتؤدي إلى ارتفاع العائد على الدولار وزيادة سعر صرفه. كما إن التدخل في سوق الصرف من قِبل البنوك المركزية الناشئة يُقرأ على أنَّه مؤشر على ضعف الأساسيات الاقتصادية لهذه الدول، مما يجعلها عرضة لمزيد من الاضطرابات الاقتصادية.

لا يبدو أنَّ مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) الأمريكي سيتخلى عن رفع سعر الفائدة، كما إن التدخل المُنسّق في سوق الصرف- كما حصل في عام 1985 بما سُمي بـ"اتفاق بلازا"؛ حيث اتفقت الولايات المتحدة مع حكومات أخرى على بيع الدولار لخفض قيمته- أمرٌ مستبعدٌ حاليًا؛ إذ حينها اتفقت الولايات المتحدة مع كلٍ من فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة واليابان، لكن من المستبعد اليوم أن تكون هذه الدول قادرة على القيام بمثل هذه الخطوة مجددًا. كما أنه من المُستبعد أن يتم التنسيق بين الولايات المتحدة والصين؛ وهما القوتان الاقتصاديتان العظمتان، وذلك في ضوء الخلافات القائمة بين الدولتين.

وفي الوقت عينه، لا يُمكن لصندوق النقد الدولي أن يحل هذه المشكلة؛ حيث يُقدم الصندوق حاليًا مزيدًا من البرامج التمويلية للدول التي تُعاني من التَّعسر، ويعمل على منح قروض ذات مدد طويلة، وبالذات للدول التي تعاني من زيادة الديون والاختلالات الهيكلية في منظوماتها المالية.. لذلك من المُستبعد أن يتدخل الصندوق في سوق الصرف. والحل المتوافر أمام هذه الدول ليس سوى رفع سعر الفائدة، بما يساعد على جذب الاستثمار الأجنبي في أصولها وخاصة أدوات الدين. وهذا فعلًا ما قامت به دول عدة.

وعلى المدى الطويل، قد يكون الحل قيام البنوك المركزية بتنويع احتياطاتها الأجنبية من العملات، وتنويع وسائل مدفوعاتها بعيدًا عن الدولار الأمريكي والتوجه نحو عملات أخرى مثل اليورو أو العملة الصينية أو عملات دول صغيرة. وذلك سيجعل هذه البلدان أقل عرضة لمخاطر الاعتماد على السياسة النقدية لدولة معينة.

وبالنسبة للدول التي تربط عملاتها مع الدولار، مثل سلطنة عُمان ودول الخليج، فهي لا شك تستفيد من قوة الدولار وقوة عملتها المحلية؛ فتستفيد هذه الدول من انخفاض قيمة الواردات المقوّمة بعملات غير الدولار، مما يساعد نسبيًا في خفض نسب التضخم المستورد، كما إن دول الخليج تستفيد من أن صادراتها النفطية تُباع بالدولار، كما إن السلع المستوردة التي تدخل في الصناعات المحلية، قد تصبح أرخص كذلك. غير أنَّ قوة الدولار لفترة طويلة تضُر بالصادرات غير النفطية؛ لأنَّ ذلك سيؤثر على تنافسيتها في السوق العالمية، مما سيؤخر من عملية تنويع الصادرات والاقتصاد.

** باحث في قضايا الاقتصاد والتنمية