عجز مُلجم

 

فاطمة المهرية

 

شوقٌ مُرهق يُبكينا، واختفاء سراج البيت المُنير، آهٍ على تلك الليالي، ذهبت تلك التي تُحبني كما أُحبها ولا تسمح لأحد أن يمسني بكلمة أو يجرح مشاعري.

جاء ذاك اليوم الحزين الذي بدأت ظلمته تحوم أوساطنا الرائعة؛ حيث كانت جدتي في أيامها الأخيرة تسكن مع عمتي القريبة من بيتنا وفجأة جاء خبر نقلها للمستشفى. مضت أيامها الأخيرة بين جدران المستشفى وظننتُ حينها أنكِ ستتجاوزين المرض كالعادة، ستتغلبين عليه بحكمة عالم وصمود جندي، لكنني أخطأت! وقد كلفني الأمر كثيرًا. وكانت الصدمة الكبرى بعد ذلك! خبر وفاتك، إنه البركان الذي هاج في منزلنا، وما إن سمعنا عنها إلا وانجرفنا كما ينجرف السيل من الوادي متوجهين نحوها.

نعم فقد أخذها الموت.. إنه الموت الذي لا يستأذنك يأتي بغتة، هذا الإحساس الذي يجبرك أن تقف مستسلمًا لهذه الحياة، تحتضر روحك ألف مرة وتدرك أن كل لحظة احتضار وكل سكرة ونزع تمر بها لن تنتهي بموت، ألم محرق يُلجمنا عندما ينتزع الموت أرواحًا أحببناها بطهر، كل الأشياء ترحل! وعندما لا تعود نفقدها للأبد.

جدتي.. لقد مرت 5 أشهر منذ رحيلكِ، ومنذ تلك اللحظة لم استطع الكتابة لكِ، كان يُراودني العجز والبكاء فقط حين أتذكرك شوقا وحزنا وحنينا، ولكن هذه اللحظة استنجدت بقلمي بالقوة، لعل الوجع يهمد قليلًا، ولأول مرة تخونني الكلمات! أبجدية الضاد بأكملها عجزت عن إخراج ما بين أوتاري، والقلم يرتجف بين أصابعي.

أتعبتني الأسطر الأولى ولو كنت شجاعة بما يكفي وتمنيت أن أبدأ رسالتي بِـ"أحبكِ جدتي"، عشقت حكاياك ومازلت أحفظها، لم أفهم يومًا مغزى الكلام، بقدر ما كانت تستهويني نبرة صوتكِ.

جدتي.. ما زلتُ أتذكر الكثير من التفاصيل الصغيرة وتحتل ركنًا خاصًا في قلبي، أفتقد ترحيبك بي حين أقبل عليكِ، أشتاق لحلاوة روحكِ وأثير صوتكِ في أذني ورائحة يديكِ المقدستين، اشتقت لحنانكِ وكلماتك وحُبك وقبلاتك ‏وابتسامتك وكل شيء أشتقت لكِ ياجدتي.

ما زلت أتخيل أن وفاتكِ مجرد حلم وأنكِ على قيد الحياة ما زلتُ اتذكركِ فأبتسمُ مرة وأبكي ألف مرة عند رؤية ملامحكِ في عينيَّ.

منذ أن رحلتِ والدنيا في نظري مملة بدونك افتقدت من يخاف عليَّ ويدعو لي ويسأل عني فقدت ذلك الحب العظيم.

حينما رحلتِ ياجدتي عن ديارنا وذهبتِ إلى ديار الوحشة ديار نهاية الحياة لكل إنسان تركتِ في قلوبنا بصمات ذكرى حياتكِ معنا فكلما بحثنا  عن السعادة تذكرناكِ وأدمعت أعيننا جميعا وتتحرك الشجون بداخلنا وكأنها هي السعادة بذاتها، طيب الله ثراكِ وأنار الله قبركِ وأدخلكِ الفردوس الأعلى من الجنة.

لن أقول وداعًا؛ بل إلى اللقاء حين يحين الموعد، كنتِ زهرة في الحياة الدنيا وأتمناكِ برعمًا في الجنة. سلامًا لكِ ولكل الساكنين بيوتا تحت الأرض.

أعلم أني لا أملك من أمري شيئًا ثم أوقن أن الموت  راحة وسكنًا لمن رحل وموعظة وعبرة لمن بقي، لكن الكتابة تهدئ الألم أحيانًا وعلى حدودها يسكن فؤاد أنهكه الحنين.

إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وبقضائك يا رب راضون وبحكمتك مُحبون ومُتدبرون.

إلى جدتي التي سُميت باسمها..

تعليق عبر الفيس بوك