متابعة المسلسلات والأفلام

 

عبدالعزيز بن بدر اليحمدي

 

في صباح يوم السبت الموافق السادس من أغسطس 2022، أنهيتُ مشاهدة آخر حلقات مسلسل "السلطان عبدالحميد"، وهو مسلسل تركي لآخر أقوى السلاطين العثمانيين في الدولة العثمانية والذي بدأت بعد عهده في السقوط التدريجي حتى تلاشت تلك الإمبراطورية الإسطورية.

يتكون المسلسل من حوالي 150 حلقة، كل حلقة مدتها ساعتان ونصف الساعة، بما يقارب  370 ساعة لمجموع كامل حلقات المسلسل. وقد استغرقت مني مشاهدة هذا المسلسل حوالي سنة ونصف السنة. شخصيًا لست من مدمني مشاهدة المسلسلات والأفلام ولا قضاء ساعات طويلة أمام شاشة التلفاز ما لم يكن ما أشاهده سينعكس عليَّ بفائدة ما. وفي أحد أيام عام 2020، ومع انتشار جائحة كوفيد 19 (كورونا) على العالم أجمع واستمرار الإغلاقات المتكررة على السلطنة وفرض الحجر الصحي المنزلي على كل من خالط شخصًا أصيب بهذه الآفة وكغيري من أفراد المُجتمع أضطررنا للبقاء في منازلنا لعدة أيام وأحيانا لأسابيع متواصلة، كنَّا نقضي ساعات كثيرة من يومنا دون أن تستغل أو تستثمر بالشكل الصحيح مما أدى لوجود أوقات فراغ كبيرة، وفي أحد الأيام التي كنت أتصفح فيها بعض برامج التواصل الاجتماعي كأسلوب شائع لتمرير تلك الأوقات بشكل سريع ومحاولة البحث عن شيء ذي فائدة أشغل به وقتي، استوقفني مقطع قصير على صفحة الانستجرام، استقطع من هذا المسلسل التاريخي العظيم الذي لم أسمع عنه من قبل مسلسل السلطان عبدالحميد الثاني (حيث يحكي ذلك المقطع تعصب هذا السلطان للقضية الفلسطينية بشكل عام وقضية المسجد الأقصى بشكل خاص).

قصة ذلك المقطع أنَّ أحد السفراء الإنجليز في الدولة العثمانية كان متبنياً لفكرة إنشاء دولة صهيونية في الأراضي المقدسة الفلسطينية كغيره ممن سبقه وتنفيذا لخطة طويلة وضعت منذ زمن من عينوه في ذلك المنصب. وكان هذا السفير الإنجليزي يحترف النجارة وقد أحضر معه مجسماً صنعه بنفسه عبارة عن بناء معماري لمعبد هيكل سليمان والذي كان يحلم ببنائه في موقع المسجد الأقصى بعد أن يقوم بهدمه. ولكن السلطان عبدالحميد كان يملك أكبر شبكة استخبارات في العالم وأقواها في ذلك الوقت لهذا فقد علم بقصة هذا المجسم واستشاط غضبًا شديدًا على ذلك، وكان السلطان العثماني يمارس النجاره أيضًا بل يعتبرها حرفته وهوايته المُفضلة وكان يقضي ساعات طويلة من يومه في ورشته الخاصة ويعتبِر هذه الورشة مكاناً ملهماً للتفكير بعمق في أمور دولته. حينها قرر هذا السلطان الفطن صناعة وتطوير مجسم للمسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة وعكف عليه أياما ليُخرجه بأحسن حلة وقد فعل ذلك حيث كان ذلك المجسم رائع التصميم ومتقن التنفيذ وصلب البنيان وجميل الألوان. بعدها أرسل معاونيه لجلب مجسم هيكل سليمان ذاك بخفية تامة، والذي كان يخبئه السفير في أشد الأماكن حراسة وأكثرها أمنا، ولكن معاوني السلطان أشد منهم دهاءً وحنكة وقد جلبوه دون علم أحد حتى السفير نفسه ووضعوا خطة محكمة لإتمام هذه العملية بسرية تامة. وأمر السلطان بوضع ذلك المجسم "هيكل سليمان" على طاولة دائرية بمكتبه الخاص الذي اعتاد على مقابلة ضيوفه فيه وأمر بتغطيته بقطعة قماش حتى يخفيه عن الأنظار. بعدها أمر باستدعاء السفير الإنجليزي للمثول أمامه ليريه مدى حساسية هذا الملف لديه ولدى جميع المسلمين وأنه على استعداد تام لبذل الغالي والنفيس من أجل هذه القضية المقدسة. حضر السفير لمقابلة السلطان حسب الأوامر التي تلقاها وقد وقف الاثنان متقابلين وبينهما تلك الطاولة الدائرية المغطاة. بعدها أمر السلطان مساعده الشخصي بسحب الغطاء عن ذلك المجسم ففعل، حينها نزلت الصاعقة على السفير الإنجليزي وتجمد في مكانه من أثر الصدمة بعدما رأى مجسم الهيكل الذي صنعه أمامه، ولكنه حاول مسارعا استجماع نفسه وترتيب أفكاره وأجاب قائلاً بعد أن كشف أمره: "إننا سنبني هذا الهيكل مكان المسجد الأقصى يومًا ما". حينها سأله السلطان سؤالا حكيما وبكل هدوء: هل سبق لك ورأيت المسجد الأقصى من قبل؟ فأجاب: "لا"، فرد السلطان مبتسمًا: لأريك إياه إذن!

وأشار لمعاونيه بإحضار المجسم الذي صنعه بيده، وجيء بالمجسم مغطى بقطعة قماش فاخر خيطت فيه آيات القرآن الكريم وشعار الدولة العثمانية وأمر بوضعه فوق مجسم السفير بنفس الطاولة الدائرية مما أدى ذلك إلى هدم مجسم الهيكل الذي كان ركيك الصنعة قبيح المنظر قاصدا بذلك محو فكرة ذلك المعبد من الوجود في مشهد تقشعر له الأبدان. حينها تحرك السلطان باتجاه مجسم المسجد وقام بنفسه برفع الغطاء بطريقة مهذبة وتقبيل آيات القرآن وشعار دولته، وقال ونبرة الغضب تظهر من شفتيه: "المسجد الأقصى سيبقى قائمًا حتى يوم القيامة وسيكون للمُسلمين دائمًا". ومن شدة تأثير الصدمة على السفير لم يستطع الرد ولا حتى بحرف من هيبة ذلك الموقف وبقي متجمدًا في مكانه غير قادر على استيعاب ما حدث أمامه وانتهى ذلك المشهد بهذا الموقف. وبعد هذا المقطع المبهر عزمتُ على البحث عن هذا المسلسل ومتابعته.

لم أكن في بداية الأمر متوقعاً أن هذا المسلسل طويل جدا لدرجة أن تستغرق متابعته أكثر من عام ونصف العام، لكن في حقيقة الأمر كنت مستمتعا بمشاهدته لدرجة أنني اعتبرته منهجا دراسيا لا مسلسلا دراميا أخصص له مساحة من يومي قدر المستطاع. ولا عجب في ذلك حيث إن الإخراج كان غاية في الروعة وشخصية الممثل منسجمة تمامًا مع شخصية السلطان الذي يقوم بتمثيل دوره.

إن متابعة مثل هذا النوع من المسلسلات لم يكن مضيعة للوقت كما هو معروف عن المسلسلات والأفلام بشكل عام؛ بل هو استثمار له، فبعد مشاهدة عدة حلقات منه يبدأ المشاهد بشعور انعكاس صفات السلطان وشخصيته على نفسه، وهي بلا شك صفات حميدة جدا وأصبحت نادرة بين الناس في زمننا الحالي وسيبدأ المشاهد بالتأثر بها مع الوقت وستصبح بعض خصاله الرائعة، كما سيشعر من هم حوله بذلك التغيير الإيجابي. كيف لا وهو السلطان الذي عرف بالخلق العالي والعزيمة الجبارة والعدل بين الجميع حتى مع أعدائه الذين أسقطوه فيما بعد، وعرف كذلك بالرحمة والسعي لعمل الخير وإيثاره لشعبه قبل نفسه وعائلته.

لن أطيل هذا المقال كثيرا لأنني لن أحصي قدر الفائدة التي اكتسبتها من هذا المسلسل ولا الأحداث التاريخية المهمة التي لم أكن على علم بها، ولكني أحببت إيصال رسالة لكل من يحب الفائدة ويسعى لتطوير ذاته وتعزيز صفاته ورفع قيمه وأخلاقه أن يختار ما يتابع من خلف الشاشات وأن يتابع كل ما هو مفيد كهذا المسلسل الجبار. وبدلا من صرف الوقت في متابعة الأفلام والمسلسلات التي لا فائدة منها، والتي تستخدم كأداة لقتل الوقت عليه أن يكثف البحث قليلا وأن يختار منها ما يشكل إضافة له لا عليه، والتي سيخرج منها فيما بعد بحصيلة رائعة من عدة نواح لن يندم عليها يومًا، وستتكون لديه حصيلة فكرية مع الوقت دون جهد كبير بطريقة عصرية. أصبح مجتمعنا اليوم للأسف الشديد بحاجة ملحة إلى من هم متعمقون في الفكر وفي الخيال والثقافة لأن الساحات قد امتلأت بالمهرجين وسطحيي المعرفة مما أدى لهبوط شديد في مستوى فكرنا وإنتاجنا في مختلف نواحي الحياة وقدر اعتبروا قدوة بين عامة الناس.

أصبحت أوقاتنا مسروقة ومشتتة في ملهيات هذا الزمن التي لا تغني ولا تسمن من جوع، وللأسف الشديد سندرك ذلك متأخرا وبعد فوات الأوان إن لم يكثف الناصحون جهودهم لنا أضعافا مضاعفة. وكما هو معلوم أن سلاح العلم والأخلاق هما أهم ما يحتاجه الشاب في هذا الوقت لأنهما سلاحان لا يخذلان صاحبهما في أي زمان ومكان.

علينا جميعاً التركيز على بناء ذواتنا واستغلال أوقاتنا بمنهجية "استفد مما تحب" أي بالطريقة التي تناسبك وتحويل هوايتك لمصدر علم أو مصدر دخل سواء أكان ذلك من خلال متابعة الأفلام والمسلسلات أو من خلال ما تستمتع به من أفعال ضاربين بذلك عصفورين بحجر واحد يعود لنا بالنفع. ونسأل الله العزيز القدير أن ييسر السبل لهذه الغاية المهمة. وفقنا الله وإياكم لكل خير.

تعليق عبر الفيس بوك