الاقتصاد السوداني بين غنى الموارد وضعف الإمكانيات

 

 

هبة بت عريض

 

انشغل السودانيون في الآونة الأخيرة أكثر من أي وقت مضى بمُناقشة أمور حياتهم المُلحة، وشغلهم الشاغل لا سيما تلك الأمور المتعلقة بالجوانب المعيشية والخدمية التي باتت تضغط سلباً بشكل غير مسبوق على قدرات المجتمع السوداني في مجال مواصلة الحياة بمستويات مقبولة تحفظ كرامتهم.

ولعل هذا الضغط هو الذي يدفعنا ويدفع غالبية الشعب السوداني لطرح سؤال كبير يبدو كالسهل الممتنع، ألا وهو هل نحن بلد فقير؟ وإذا كنَّا كذلك ما سبب فقرنا؟ وهل نحن فقراء موارد أم فقراء تخطيط وإدارة؟ وماذا نفعل بالنهرين والأراضي الزراعية الشاسعة والثروة الحيوانية الوفيرة والذهب الذي تعج به أراضينا؟ وإذا كنا نمتلك هذه الثروات فلماذا نرى كل هذا العسر والفقر؟ ولماذا نحن في ضائقة مالية كبيرة؟ ولماذا نعاني من فشل تام على مستوى البنى التحتية وعلى مستوى التنمية؟ ولماذا تفشل الدولة في توفير فرص عمل لقوى العمل المتزايدة؟ وما أسباب كل هذا الفشل وغيره؟

للإجابة على هذه الأسئلة التي ما انفكت تشغل بال الشعب السوداني وبدون مقدمات فإنَّ المفاجئة هي أننا لسنا بلدا فقيرا البتة! فهل تبدو هذه الإجابة منطقية؟ نعم، إنها منطقية حينما نفهم ما هو الغنى وفقا للمنطق الاقتصادي الحديث، إنَّ الغنى الاقتصادي الحديث بات يتعلق بالقدرة على الابتكار وتحويل هذا الابتكار إلى سلع وخدمات مختلفة تلبي الطلب المحلي وتسمح بتصدير فائض الإنتاج إلى الأسواق الدولية مقابل الحصول على تدفقات من النقد الأجنبي سيما الدولار. بمعنى أنه إذا أردنا أن نعرف مستوى الغنى الاقتصادي فيجب أن ندرك أولاً أنه يرتبط بشكل أولي بالقدرة على الإنتاج، سواء كان إنتاجا زراعيا أو صناعيا أو خدميا أو أي نوع آخر من أنواع الإنتاج الذي يضيف دخلا جديدا للاقتصاد، إذا سلمنا أننا دولة غير ريعية لا نمتلك نفطاً ولا غازاً، الأمر الذي يمكن أن يضيف دخلا مهما إلى الاقتصاد. ووفقًا لهذا المنطق، فإنَّ الكثير من الدول التي لا تمتلك أي نوع من أنواع الطاقة التقليدية يمكن أن تكون غنية وغنية جداً كما هو الحال مع سنغافورة واليابان وأغلب دول الاتحاد الأوروبي وغيرها، بالمقابل يمكن أن تكون هناك دول تمتلك نفطا وغازا ومصادر ريع أخرى لكنها دول أقرب إلى الفقر منها إلى الغنى كالعراق مثلا .. فامتلاك الموارد دون توظيفها بطريقة ناجحة وفقاً للمنطق الاقتصادي السليم لا يعني بالضرورة أنه سيفضي إلى غنى وتقدم اقتصادي.

إذن.. أين تكمن المشكلة ولماذا أصبحنا بلدا يعيش في تناقض وفرة موارد زراعية وحيوانية من جهة وتراجع الموارد النقدية وانكماش الناتج المحلي الإجمالي من جهة أخرى، وبالتالي أصبحنا أمام مشكلة اقتصادية كبيرة جدًا وصلت إلى حد عجز الحكومة عن الإيفاء بالتزاماتها تجاه المواطنين مما جعل أغلب الشعب السوداني يتجه لخارج البلد بحثاً عن لقمة العيش والصحة والحياة الكريمة.

يتعلق هذا الفشل بالدرجة الأولى بسياسة البنك الدولي في تحرير الجنيه السوداني ورفع الدعم عن السلع والخدمات، ووفقًا لذلك تم تحرير أغلب القطاعات الاقتصادية وفسح كامل المجال أمام القطاع الخاص والسماسرة، وشرعت الدولة بزيادة الأجور العامة بشكل لا يتناسب مع حقيقة قدرة الاقتصاد سيما أنه لا يوجد إنتاج ولا تصنيع، كما أن هذه الفلسفة الاقتصادية قامت على أساس فرضية أثبتت الوقائع أنها فاشلة وعملت بشكل عكسي إلى حد كبير ألا وهي: إن رفع الأجور سيؤدي إلى رفع مستوى الإنفاق وزيادة مستوى الطلب، وإذا زاد الطلب سيفضي إلى دفع المُنتجين المحليين إلى زيادة الإنتاج وتنويعه للتقليل لاحقًا من الاعتماد على واردات البلاد وجذب الاستثمار الأجنبي، وبالتالي ينتهي إلى توسع اقتصادي ونمو مستمر.

غير أن قوى الفساد المرتبطة بالعملية السياسية وبالقوى الخارجية استطاعت أن تجعل من هذه الفرضية عامل هدم واستنزاف للاقتصاد السوداني، فبعد أن تحول القطاع الخاص المرتبط بالقوى السياسية النافذة إلى وكالات استيراد عملاقة عمل على تعطيل أي فرصة لقيام هيكل إنتاج محلي متنوع وإلغاء أي فرصة لجذب الاستثمار الأجنبي عبر التعمد بإثارة الفوضى ورفع مستوى المخاطر الأمنية والسياسية والاقتصادية، وبالتالي أجهضت فكرة تطوير الجهاز الإنتاجي المحلي والإبقاء قدر الإمكان على جهاز إنتاجي عند حدوده الدنيا والتي تعجز عن تلبية الطلب المحلي المتزايد والتواق لتنويع الاستهلاك.

إن فشل الجهاز الإنتاجي المحلي بالتزامن مع استمرار الطلب أفضى إلى نقل شبه تام لرأس المال الأجنبي الموجود في الداخل إلى الخارج عبر تجار العملة والتحويل عبرهم بدلاً عن البنوك مما أدى لطباعة عملة سودانية جديدة لتغطية الطلب في البنوك، وقد كان للإمارات وتركيا ومصر حصة الأسد من رأس المال السوداني بعد أن أقامت وكالات الاستيراد علاقات تخادم وعرى تجارية لا تنفصم مع تلك الدول، وأصبحت السياسة النقدية في خدمة أهداف التنمية الإقليمية بدل أن تكون ماكينة للنمو المحلي خاصة بعد رفع سعر الدولار الجمركي.

وهكذا أصبحنا أمام مشهد محزن قوامه العجز عن الإنتاج المحلي المتعمد يفضي إلى الاعتماد على الإنتاج الأجنبي الإقليمي عبر تجارة خارجية مختلة وفاسدة انتهت إلى استنزاف أغلب موجوداتنا النقدية دون أن يكون لها أثر في الاقتصاد المحلي، يصاحبه عجز حكومي غير مسبوق عن تعديل هذه المعادلة الظالمة، وقد ساهم تصدير ثروتنا الزراعية خاماً والحيوانية حية في تعميق هذه المشكلة وتعقيدها إلى الدرجة التي لم تعد وارداتنا قادرة على تلبية نصف الأجور، يرافق كل هذا فساد وهدر وتسرب مالي وفشل في النظام الضريبي والجمركي وارتباك الجهاز المالي والنقدي والمصرفي بشكل غير مسبوق.

المشكلة الأكبر في هذه التراجيديا الاقتصادية هي أن الشعب السوداني ما زال غير مدرك لهذا الواقع وما زال يعتقد أنه شعب غني يعيش في دولة من أغنى دول العالم لمجرد أنه يملك أرضا وماء وضرعا، متغافلا عن أن هذه الموارد لم تعد تعني شيئًا مهمًا في الاقتصاد الحديث القائم على الابتكار والذكاء الصناعي، ويكفي أن نشير إلى أن ما تحصل عليه شركة "أبل" الأمريكية لوحدها من دخل يعادل 5 أضعاف ما تحصل عليه دولة تمتلك نفطًا وغازًا سنويًا، فهل نحن أغنياء حقًا وبلدنا الذي التهمته قوى الفساد غني أم أننا نعيش الوهم الاقتصادي؟

 

قَومٌ إِذا ما دَعا داعي الهُدى نَكَصوا // فَإِن أَهابَ بِهِم داعي العَمى اِستَبَقوا

لَم يَبقَ مِن مُحكَمِ التَنزيلِ بَينَهُمو // إِلّا المِدادُ تَراهُ العَينُ وَالوَرَقُ

ضاقَت بِهِم طُرُقُ المَعروفِ وَاِتَّسَعَت // ما بَينَ أَظهُرِهِم لِلمُنكَرِ الطُرُقُ

ضَجَّ الصَباحُ لِما لاقَت طَلائِعُهُ // مِن سوءِ أَعمالِهِم وَاِستَعبَرَ الغَسَقُ

تعليق عبر الفيس بوك