أمّهات عُمان

 

هند الحمدانية

سآخذكم معي في هذا المقال في جولة أكتوبرية مُميزة، سنطوف فيها بين أروقة طرقات حارات ولاياتنا العُمانية وداخل القرى التي لم نسمع بأسمائها من قبل، سوف نلقي بخيوط النور على نساءٍ عُمانيات بنكهة الحياة وبنكهة العطاء وبرائحة الجنَّة، هُنَ أمهات بدون شهادات وصاحبات إنجازات بدون دراسات عليا، وذوات قرارات بدون سلطة ومناصب.

سوف نتحدث عن أمهات الوطن البسيطات وربات البيوت الأُمِيات، سنتحدث عن وطن صغير ينام داخل هذا الوطن الكبير.

أول حكاية هي لأمٍ أنجبت خمسة أبناء بإعاقة ذهنية (مُتلازمة)، وهي تلك الإعاقة التي يُصاحبها صعوبات في التعلم وأعراض طبية وسلوكية أخرى، يحتاج معها الطفل الكثير من العناية والاهتمام طوال الوقت والإعانة على الحركة والأكل والتفاعل، لكن أم خالد وهي تلك المرأة التي لم تحظَ بفرصة للتعليم أصرت أن لا يثنيها شيء عن دعم أبنائها مادامت هناك روح تنبض في أجسادهم، كانت تعينهم في كل تفاصيل لحظاتهم، بذلت طاقتها ووقتها وعقلها وقلبها لمساندة فلذات كبدها ولم تيأس من حالتهم الصحية، طرقت باب كل مؤسسة من شأنها أن تساهم في تعليم أبنائها أو أن تطور من مهاراتهم، ألحقت بعضهم بمركز الوفاء لتأهيل الأطفال المعاقين، كما ألحقت الآخرين الذين يتمتعون بإعاقة ذهنية أقل بمدرسة حكومية، ولم تبخل بأي جهد في سبيل التعاون مع إدارة المدرسة ومجلس الأمهات في ترويض الصعوبات وتفعيل الأنشطة والمناسبات لدعم العملية التعليمية واستثمار طاقات الطلبة حتى أصبحت رئيسة لمجلس الأمهات بكل جدارة.

ولم تتوقف هنا بدأت في المشاركة في أي عملية تطوعية في ولايتها سعيا منها أن تكون يداً ممتدة وسبيلاً لكل صاحب حاجة، والمدهش في الأمر أنها بدأت بتشجيع أبنائها المعاقين للمساهمة في المجتمع والانخراط في الأعمال التطوعية، وأن يكون لهم دور في الحياة والمجتمع، حولتهم من أبناء ذوي إعاقة ذهنية إلى أبناء ذوي بصمة وحضور ومشاركة.

ومن أم خالد المرأة الإيجابية المُفعمة بالصبر الجميل، إلى أم عماد المفعمة بالكفاح والأمل، فمن هي يا ترى أم عماد؟! وما هي مسيرتها الملهمة التي لا بد لعُمان وللعالم أجمع أن يسمع بها؟!

أم عماد امرأة أرملة توفي زوجها وتركها وحيدة مع عشرة أبناء، أصغرهم طفلة رضيعة لا يتجاوز عمرها الشهرين، اضطرت أم عماد أن تواجه الحياة بمفردها وأن تكون معيلاً لعشرة أيتام، انخذلت من الأقرباء وتفاجأت بأنَّ الدائرة الواسعة من الأهل التي كانت تحيط بهم في زمن المرحوم زوجها بدأت تتقلص شيئاً فشيئاً حتى وجدت نفسها أرملة مُثقلة بعبء الحياة والتزاماتها ومسؤولة عن نفسها وعشرة أرواح بريئة كانت هي السند الوحيد لهم بعد الله.

طرقت كل باب تبحث عن عمل، وامتهنت كل مهنة شريفة لتوفر لقمة العيش الكريمة والمال الحلال لأبنائها، لم تطلب الناس حاجتها، بل كانت تسأل الله مع كل فجرٍ يشرق عليها راجيةً منه تيسيرا وتسخيرا لها في الأرض وعوناً ليس من بعده عون.

كان من بين تلك المهن الكثيرة، مهنة عاملة نظافة في مدرسة ما براتبٍ يسير، ومهنة معلمة سياقة للنساء في شركة خاصة، لقد كانت أم عماد تردد دائماً على مسامع الجميع أنها تدعو الله أن يكرمها بالعمر المديد فقط إلى أن يكبر كل أبنائها ويعتمدوا على أنفسهم ولا يحتاجوا إلى أحد من بعدها.

فعلا انتهى ولدها الأكبر من الثانوية العامة والتحق بوظيفة في إحدى الشركات براتب بسيط، ثم تخرجت ابنتها في إحدى الجامعات وأصبحت طبيبة أسنان، وتلاحق الأبناء في سلك التعليم الواحد تلو الآخر، حتى أصبحت أصغر البنات في المرحلة الإعدادية.

حتى جاء ذلك اليوم، عندما دخل عليها ابنها الغالي عماد، يبشرها أنَّه اشترى سيارة جديدة، لكن الغريب في الأمر أن السيارة كانت فارهة جدا، فتساءلت من أين لك المال لتشتري سيارة بهذه القيمة؟!!! لكنه أجابها أنَّه اشتراها بقرض من البنك، بعدها بأسابيع بسيطة اشترى ولدها عماد لأخته الطبيبة عيادة أسنان جاهزة كانت معروضة للبيع، وهنا زادت شكوك الأم من أين لعماد بكل هذا المال، وعندما واجهته اعترف لها بأنَّه بات يتاجر بالممنوعات، هنا كانت الصدمة الكبرى لأم عماد المكافحة الشريفة، الممنوعات؟!!!! لقد اشترى عماد جميع إخوته بالمال الحرام، ووفر لهم ما عجزت والدتهم عن توفيره بعرق جبينها الحلال.

تآمر جميع الأبناء على الأم المسكينة ومارسوا عليها كل الضغوطات لكي ترضى بما يقوم به الأخ الأكبر وتسانده أو أنهم سوف يغلقون عليها باب غرفتها للأبد، وهنا مرت كل ذكريات السنين العجاف على خاطر أم عماد، كشريط ذكرياتٍ أسود محملاً بالتعب وساعات السهر وآلام الظهر التي لازمتها بسبب الأعمال الشاقة، نظرت إلى يديها الممتلئتين بخطوط كثيفة وتشققات جافة بدت وكأنها يد عجوز قاربت على التسعينات، ثم بكت وبكت وبكت.

كان حلم أم عماد أن تنشئ أبناءها بعرق جبينها وبالمال الحلال، كان حلمها أن يكونوا سندا وظهرا لها في الكبر وأن لقمة شريفة سوف تكفيهم شرور الحياة الخارجية ومطامع البشر.

ظلت يومين في تلك الغرفة وخلف ذلك الباب الموصد، وفي اليوم الثالث صاحت بأبنائها افتحوا الباب أنا قبلت أن أكون معكم، أنا قبلت بكل شروطكم، فتح الأبناء الباب فرحين أن أمهم أخيرا وافقت أن تبارك هذا الرخاء الذي عمَّ عليهم وأنها سوف تدعمهم بعد الآن، وفي أقرب فرصة خرجت أم عماد من البيت وإلى أقرب مركز شرطة بلغت عن ولدها الغالي والعزيز عماد.

كانت أم عماد مثالاً عظيمًا لأغلب أمهات هذا الوطن الشريف، اللاتي آثَرنَ الولاء للوطن على الحال والمال والأبناء، أمهات الوطن الشريف اللاتي آثَرنَ لقمة العيش الحلال على وفرة المال الحرام، أمهات الوطن اللاتي اِستَمتَعنَ بالكفاح وانشَدنَ انشودة الإخلاص لله والوطن وللفلاح.

إنَّنا نفخر بأمهاتِ عُمان من جنوبها إلى شمالها.. نفخر بأمهاتنا اللاتي لم تغمض لهن عين في سبيل راحة الأجيال.. أمهاتنا اللاتي تَحَمَلنَ الظروف وعَزَزنَ فينا قيم الدين والأخلاق والأمانة.. أمهاتنا اللاتي أرضَعنَنا الوفاء والولاء لهذه الأرض.. أمهاتنا اللاتي هن وطنًا دافئًا ينبض داخل الوطن الأكبر عُمان.

تعليق عبر الفيس بوك