التقاط شخصيات مخفيَّة

 

د. صالح الفهدي

 

ما كادَ الطالبُ في المدرسة التقنية أن يُكمل سنته الأخيرة في مدرسته حتى جاءَ أمر من مسؤولٍ كبيرٍ بأن يُنقل إلى كليَّة الآداب بجامعة السلطان قابوس، فقد كان هذا المسؤول الكبير يتابعُ ما يكتبه هذا الطالب من نصوصٍ أدبيَّةٍ ومقالاتٍ وأبحاثٍ وغيرها رغم أنَّها كانت متواضعة البدايات، ورغم أنَّ الطالب قد اختار مساراً آخر إلا أنَّ تلك اللفتة من المسؤول الكبير قد بقيت علامةً فارقة على وجودِ مسؤولٍ كبيرٍ صانع قرارٍ يُتابع أصحاب الإبداعات والقدرات ويترسَّمُ لهم الطريق، لقد كان ذلك الطالبُ هو كاتبُ المقال، وكان المسؤول الكبير هو معالي السيد سيف بن حمد البوسعيدي وزير ديوان البلاط السُّلطاني الأَسبق رحمه الله تعالى؛ رجل المسؤوليات الواسعة، والمهمَّات الكبيرة، ومن يعرف الرجل يُدرك تماماً اهتمامه اللافت بالقدرات والكفاءات و"التقاط شخصياتٌ مخفيَّة"، وصنعِ مسارٍ مستقبليٍّ لها، وما شئتُ أن أذكر القصَّة إلا لأنني اعتدتُ على الاستناذ إلى المخزون الشخصي من تجارب لتعضدُ أفكارَ مقالاتي.

 

نفتقدُ بكلِّ صراحةٍ مثل هذه الشخصية النموذج التي تلتقطُ الكفاءات والقدرات بعينٍ فاحصةٍ، بصيرةٍ، دقيقةٍ، وترسمُ لها مساراً مُستقبلياً واضحَ المعالم، جليَّ المسؤوليات والمهام، شخصيَّة لا تنظر في محيطها الضيِّق فترى من تقع عليه عينها، وكأنها وجدت لؤلؤةً في صَدَفة، فتضعها في مقامٍ ليس مقامها، وفي مسارٍ ليست جديرةً به، وإنما تتجاوز الأَبعاد القصيرة برادارها الكاشف لمساحات الوطن بأكمله، ثم تلتقطُ الشخصية المخفيَّة لتضعها في المسار الذي يجب أن تسير عليه من أجلِ أن تخدم وطنها.

شخصيةٌ تنظرُ بعينٍ فاحصة، واسعة الحدقة كل من يمتلك السِّمات التي تؤهله للقيام بدورٍ في بناءِ وطنه، لما وهبه الله من طاقات، وقدرات، ومواهب.

 

من المُؤسف ندرة هذه الشخصية الحصيفة التي تمتلك بُعداً استراتيجياً على النطاق البعيد، ثم إنها قادرة على تحديد السِّمات الشخصية للأكفاء الذين يُمكنهم أن يحققوا التميُّز في إنجاز أهداف ذلك المسار، هذا الأمر لا يعني "التقاط شخصية مخفية" ووضعها على الفور في مسارٍ مُعين، وإنَّما التدرُّج بها أكان بعلمها أو غير علمها وفق دَرجات ومستويات حتى تُصبح مؤهلة للمسؤولية المرسومة لها منذ سنوات على سبيل المثال، أمَّا وضع شخصيةٍ ما بصورة عاجلةٍ في مسارٍ مُعيَّنٍ فقد يجانبه الصواب، ولا يُحقق المأمول منه.

 

تابعتُ منذ أيام لقاءً مع معالي محمد القرقاوي وزير شؤون مجلس الرئاسة في دولة الإمارات العربية المُتحدة على برودكاست (ثمانية)، فذكر قصَّة المتسوَّق السري الذي كان ينقلُ لسُّمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم رئيس الوزراء، حاكم دبي ما يتمتع به القرقاوي من قدرات شخصية لتولِّي مناصب مُعيَّنة، والرجلُ بعيدٌ جداً عن دوائر صنع القرار، وأعين المسؤولين الكبار، لكنه كان قريباً من عيون الشخصية صانعة القرار بما اتخذته هذه الشخصية الكبيرة من نهج لالتقاط الشخصيات المخفيَّة ووضعها في المسار الذي يليقُ بها، حتى أصبح القرقاوي وزيراً لشؤون مجلس الوزراء ورئيساً لمكتب رئيس الوزراء.

 

ما نرمي إليه بالقول هو أنَّ أصحاب الكفاءات كالآليء النادرة لا تتوفر في كل الصَدَفَات وإنما تحتاجُ إلى بحثٍ دقيق، ولو أنَّ كلَّ صاحبِ قدرةٍ علميَّة، أو أدبيةٍ، أو فكريةٍ، أو سياسيةٍ وكلَّ موهوبٍ رياضياً وفنيَّاً وكل مالك عقليةٍ وازنةٍ، ونظرةٍ ثاقبةٍ، وكل من يمتلك السمات القيادية الفذَّة، قد وقع عليهم مؤشِّر رادار الكشف عن الشخصيات المخفية فتم تبنِّيهم ووضعهم في مسار تطويري، لتقدَّم الوطنُ سريعاً في كل المجالات التي يقودها هؤلاء النوابغ المبدعون.

 

تابعتُ فيلماً بعنوان "شخصيات مخفية hidden figures" يتحدَّث عن ثلاث نساء من مجتمع السود في فترة الخمسينات والستينات حيث كُنَّ يعانين من ويلات العنصرية إبَّان عملهن في وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) في الوقت الذي كانت تجري فيه محاولات أمريكا الدؤوبة للوصول إلى القمر بعد أن سبقها الاتحاد السوفيتي، هؤلاء الثلاث نسوة استطعن أن يصنعن فارقاً كبيراً يعود له الفضل في وصول أول رجل أمريكي إلى القمر بعد أن تمَّ منحهن الثقة الكاملة.

 

أوطاننا بحاجة ماسَّة إلى "التقاط الشخصيات المخفيَّة" بوجود صنَّاع قرار لهم آلياتهم التي تتجاوز الشخوص القريبة منهم إلى شخوص ذات كفاءات عالية، وقدرات مُتميزة لا تملك الوسائل لكي تفصح عن مخزونها، فكأنَّما هي معزولةٌ في هامشٍ بعيدٍ، مغلولةٌ بالقيود. أوطاننا بحاجة إلى تمكين الشخصيات ذات الكفاءة والقيادة والقدرة والتميز ووضعها في موضعها الملائم لها كي تُحقق الأوطان غاياتها الكبرى، وتنجز رؤاها الإستراتيجية. 

 

ويقيناً أنَّ التقاط الشخصيات المخفية لن يتحقق إلا بوجود صنَّاع قرار ذوي رؤى بعيدة النظر، وحكمة بالغة الأثر.