د. مجدي العفيفي
(7)
"وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّه".. بلى أنت فينا يا رسول الله.
يتجلى النور المحمدي في جنبات الكون، لاسيما في هذا الشهر الخاص، الذي شهد ميلاد محمد رسول الله ورحمة الله للعالمين، ويتعاظم الاحتفال بمولده ويتسامى الاحتفاء بشخصيته، رغم أنف المتحذلقين والمتنطعين الذين ينكرون الاحتفالية الكونية، ويثرثرون حقدا وضغينة، وينشرون ترهات يسخر منها حتى الأطفال ويتخذونها سخرية، ويتناسى هؤلاء المنكرون المنغلقة قلوبهم.. أنهم يحتفلون بحكامهم وزعمائهم، وأعيادهم الوطنية ويحنون لهم الجباه رياء وإذعانا، ويرقصون لهم صاغرين، فلا ينبس أحدهم ببنت شفة !. (ولهذه المسألة وقفة منَّا تنزع أقنعتهم فتبدو وجوههم مثيرة للغثيان). عفوًا سيدنا يا من علمتنا السماحة والصفح الجميل، لكن هؤلاء [.... ] «في فمي ماء غزير»!
(8)
"وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّه".. بلى أنت فينا يا رسول الله.
بغض النظر عن أن كثيرا من الكتاب والمفكرين اللا إسلاميين، كتبوا عن سيرتكم ياسيدي، وعن شخصكم العظيم، وقد وقعوا في أخطاء ومفارقات حين اكتفوا بتصوير الجانب البشري فيك، دون الجانب السماوي، وبغض النظر كما يخيل إلىَّ، أننا نحن ساعدناهم على ذلك، كثير من المتصوفين منا وبعض الفقهاء، إذ إن كثيرا منهم ومن دونهم، ولا أقول كلهم، حولوا شخصكم ياسيدي، إلى أسطورة، وجعلوا منك معجزة، مع أن المعجزة لاتبرر، والأسطورة لا تعلل، وبغض النظر عمن يسمون أنفسهم بالعقلانيين والقرآنيين أيضا، سجنوا فكرهم في الاتجاه المادي المحسوس أكثر من أي منهج آخر، فإن مبلغ العلم فيك، يا سيدي، أنك بشر، وبشر يوحى إليك، حقا وصدقا وعدلا وفعلا وقولا، وطبقا لما ورد في التنزيل الحكيم (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (سورة الكهف: 110).
صحيح أنهم اتجهوا هذا الاتجاه بالحس العلمي، إلا أن خصوم الإسلام الحاقدين يستثمرون هذه «الإشراقات» ويصفونها ب«الشطحات» و«التهويمات» ويتاجرون بها تشويهًا وتشويشًا.
وأما الماديون، فيأخذون الجانب البشري من الشخصية المحمدية، ويتعاملون مع سيرتك الشريفة من هذا المنطلق فيقولون إنك«مصلح» وإنك «زعيم» وإنك «رئيس» ويصنفونك ضمن البشر والقادة، مثلما فعل الكاتبان «هنري توماس ودانالي توماس» في كتابهما «القادة الدينيون» وكما فعل «مايكل هارت» نفسه في «الخالدون مائة» مع كل التقدير النسبي لهما، وعندنا أيضا طائفة من أرباب الكلام والعصرنة والعلمنة، والنظر حتى حدود الحياة الدنيا فقط !.
على الرغم من كل ذلك يا سيدنا، فإن المنظرين والمفكرين والذين يمتلكون أجهزة الاستشعار الفكري حدسًا عميقًا وفكرًا قويمًا، يجمعون على أن القرن القادم هو قرن الإسلام والثقافة الإسلامية، كما سنشير إلى ذلك، بعد نظرة شمولية إلى (المكتبة المحمدية) التي صاغتها أقلام أجنبية من الشرق والغرب والشمال والجنوب، ورفوف هذه المكتبة العالمية مسكونة بمؤلفات كثيرة وعديدة، ومشحونة بشهادات مفكرين وفلاسفة لهم وزنهم الفكري العالمي عبر عصور متعاقبة من مسيرة الإنسانية.
وقد وضع ثلة من المفكرين أطروحات كثيرة تنهل من معين شخصكم وشخصيتكم يا سيدنا، حتى ليصعب إجراء عملية حصر دقيقة لرفوف هذه المكتبة المحمدية. لماذا؟ لأن عمرها حوالي خمسة عشر قرنا، أو يزيد، وهي مكتبة تتوسع مساحتها باستمرار، ورفوفها تقول هل من مزيد، ذلكم أن الشخصية المحمدية شخصية ذات أعماق بعيدة، دائرية النظرة والمنظور، وكل من يقترب من أطرها تنتظمه الرؤية التي ينظر بها، والأرضية التي يقف عليها، والزاوية التي يشرع منها قلمه.
(9)
"وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّه".. بلى أنت فينا يا رسول الله.
ويحسن بنا- كمهاد لاستدعاء آراء ونظرات من قبل ثلة من مفكري العالم ومستشرقيه المشهود لهم بالموضوعية عبر أزمنة متعددة وأمكنة مختلفة- أن نتوقف قليلا أمام مرآة نقدية تعكس ملامح هذه الرؤى، للدكتور «أيمن تعيلب» عبر أطروحته«صورة محمد فى العقل الاستشراقى الغربى.. دراسة نقدية فى آليات الوعي وأنساق الخطاب» إذ تقف على طبيعة ومستويات العقول البشرية في استيعاب مقام النبوة العظيم، تعالج صورة النبي محمد صلى الله عليه وملائكته، كما رسخت وسادت فى العقل الاستشراقي الغربي، وتتخذ من الدراسات التي اتخذت من صور حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو سيرة حياته وحقيقة أميته ونبوته وزواجه وعلاقته بالوحي، وبأهل الكتاب، وغير ذلك من قضايا حياته، مما يتعلق بحقيقة الرسالة المحمدية، مادة للدراسة والبحث العلمي.
ليس فقط لأن الدكتور أيمن تعيلب، محب كبير لسيدنا محمد، صلى الله عليه وملائكته، وليس فقط لأن الميزان النقدي والفكري ذو حساسية فائقة في النظرة والمنظور، بل أيضا لأن لديه القدرة على التحديق في الشرر، ومن ثم يؤكد، أنه على وعي بأن صورة النبي العظيم لم تتجل، وفق نمط تصوري واحد ولا بكيفية منهجية واحدة، في العقل الاستشراقي الغربي، ولكنها تجلت بأنماط تصورية متعددة، وبكيفيات منهجية مختلفة تبعا لتعدد واختلاف الأنساق الثقافية والفلسفية والقيمية والاعتقادية والمنهجية المتحكمة فى كل العقل الاستشراقى حسب نسق كل ثقافة، فصورة النبى فى العقل الاستشراقى الفرنسى تختلف عنها فى العقل الاستشراقى الإيطالى عنها، فى العقل الاستشراقى الألمانى، عنها فى العقل الروسى، وهكذا، وإن كنا لانعدم بصورة من الصور هذا التشابه والتقارب النسبي بين جميع الصور الاستشراقية الثقافية السابقة، لأنهم يدورون جميعا فى أفلاك وأنماط تصورية واعتقادية وثقافية ومنهجية متقاربة، ومن ثم تعني الدراسة باستجلاء الأسس الفلسفية والمعرفية والاجتماعية والثقافية والمنهجية، المكونة لطبيعة العقل الاستشراقى الغربي، التي حركت آلياته وكونت طرائقه حال تكوينها لصورة النبي صلى الله عليه وملائكته، كما تجلت وترسخت وسادت في هذا العقل، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى تعالج رأسًا، آليات العقل وأنماط التصور، وطبيعة النماذج والأنساق الفلسفية والمعرفية والآيديولوجية المتحكمة في بنية العقل الاستشراقي الغربي، حال تكوينه لصورة النبي الكريم، ومن ثم تقع الدراسة فى العمق من خطابين معرفيين جد مختلفين، وإن كانا متداخلين وهما:خطاب الاستشراق وخطاب نقد خطاب الاستشراق، لأنها لاتنصب فقط على المضمون المعرفي والفلسفي والثقافي لصورة محمد صلى الله عليه وملائكته، كما تجلت في النتاج المعرفي للعقل الاستشراقي، بل تنصب بالدرجة الأولى، على الكيفيات المعرفية، والآليات الفلسفية، والأدوات الثقافية المتحكمة، بهذا العقل الاستشراقي في الوعي والنظر والممارسة.
على أن كاتبنا لايعنيه كثيرا فى هذا المقام الخطابات الاستشراقية الأيديولوجية السجالية، سواء للمتعصبين المفترين على النبي، أم الموضوعيين المعتدلين الذين أعلوا من قدره، بل يعنيه المفهوم العلمي والفلسفي لتصورات الخطاب.
(10)
ونتواصل في نور وضياء الذي أعاد انسجام الإنسان مع الوجود كله.