الدبلوماسية الاقتصادية و"عُمان 2040"

 

مسلم سعيد مسلم مسن

أصبحت "الدبلوماسية الاقتصادية" أحد الممكنات والأدوات لتحقيق غايات الرؤى والخطط الاقتصادية لأي بلد سواء على المدى المتوسط أو البعيد.

هذا المصطلح موجود من قبل، لكنه أصبح أكثر وهجًا، بعدما تطورت العلاقات الدولية وصارت الحاجة ملحة إلى استثمار تلك العلاقات بين البلدان في الشق الاقتصادي، بالأخص في المجالات التجارية والاستثمارية. وعند الرجوع إلى أصل استخدام المصطلح نجد أنَّ أول ظهور له إبان الكساد الكبير في الولايات المتحدة (1929)، ثم توسعت مظلته بعد الحرب العالمية الثانية إلى أن بلغت ما بلغته اليوم. ويمكن تلخيص معنى المصطلح في عمومه بأنه قيمة مجمل الأنشطة الاقتصادية الخارجية للحكومة وقطاع الأعمال، وعندما نحاول أن نجد له مقاربة مع الواقع العملي فهو أكثر ما يستخدم تحت مظلة العلاقات الدولية، بل يعتبر جزءا أصيلا من تلك العلاقات يشمل استخدام الجهاز الدبلوماسي بكل إمكانياته للعلاقات الدولية الثنائية أو متعددة الأطراف لجلب المنافع الاقتصادية والاستثمارية المتبادلة سواء كانت متكافئة أو غير متكافئة نظرا لتفاوت الإمكانيات بين الدول ومستويات التنافسية والموارد والقدرات.

وبالنسبة لسلطنة عُمان ودول المنطقة فقد سعت منذ بواكير تجاربها التنموية إلى تطوير آليات العمل بـ"الدبلوماسية الاقتصادية"، ولها كذلك جهود جماعية تحت مظلة مجلس التعاون الخليجي في بلورة هذه الأداة. وقد تضمنت رؤية "عمان 2040" تبني أولوية مهمة ذات علاقة وثيقة بالدبلوماسية الاقتصادية "القطاع الخاص والاستثمار والتعاون الدولي"، كما أوردت الخطة التنفيذية الأولى للرؤية (الخطة الخمسية العاشرة 2021- 2025) عدة برامج استراتيجية تكرس مفهوم الدبلوماسية الاقتصادية في جوانبها الأساسية، فهناك برنامج "رفع مساهمة التجارة الخارجية في النشاط الاقتصادي" الذي يهدف إلى "تفعيل دور السفارات ومكاتب التمثيل التجاري في التسويق لسلطنة عمان وجذب الاستثمارات...إلخ" كأحد عناصره الرئيسية. كما إن البرنامج الوطني "نزدهر" الواردة بعض تفاصيل مبادراته في التقرير السنوي لوحدة متابعة تنفيذ رؤية "عمان 2040" الصادر في 2021، بالأخص مبادرات تحسين بيئة الأعمال والتي يأتي من ضمنها "إعداد خطة الترويج الوطنية الموحدة"، بلا شك تحتاج عند التنفيذ إلى أداة "الدبلوماسية الاقتصادية" كأحد المسرعات لبلوغ الأهداف الاستراتيجية من تلك الخطة.

وما نشهده من جهود رائعة لبعض نماذج السفارات والسفراء العمانيين والتعيينات الأخيرة لقيادات عمانية في السلك الدبلوماسي يصب في صالح التوجهات الحالية للبلاد وفي المساعدة على تفعيل الشق الاقتصادي والاستثماري الثنائي ومتعددة الأطراف ويساهم في تحقيق أجندة البرامج الوطنية الداخلية وتكاملها مع توسيع نطاق الصادرات العمانية غير النفطية وإيجاد أسواق جديدة لها وتخفيف تركز الميزان السلعي للاقتصاد المحلي واعتماده على أسواق محدودة، مع أهمية مضاعفة تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر (FDI Inflows) وتسهيل إجراءاته والقيام بما يجب من عمليات التنسيق والتفاوض مع المستثمرين وبناء جسور الثقة بينهم وبين الجهات المختصة داخل سلطنة عمان. تبدو هذه الأهداف والغايات "عموميات" إن لم تتبعها خطط تنفيذية فاعلة تتكامل معها جهود الأذرع الدبلوماسية مع الوزارات المختصة والهيئات والقائمين على البرامج الوطنية للرؤية وإعادة هندسة الإجراءات بما يكفل التنسيق المطلوب.

وهنا نطرح عدة مقترحات لتعزيز دور الدبلوماسية الاقتصادية في المرحلة القادمة وتحقيق الغايات والأهداف الواردة في الرؤية وتكامل الأدوار:

•     اعتماد مؤشر وطني للدبلوماسية الاقتصادية (Economic Diplomacy Index) قابل للقياس والتحديث مع أهمية ربطه بأهداف وبرامج الرؤية ليساهم كثيرا في تركيز الجهود. هناك عناصر عديدة يمكن أن تشكل هذا المؤشر وتحسم نتائجه : عناصر الاقتصاد الكلي وعوامل استقراره، البيئة التجارية ومناخها الاستثماري، المهارات والقدرات الوطنية في المجال الاقتصادي والدبلوماسي...إلخ.

•     قائمة الشركاء الاستراتيجيين وحجوم التبادل التجاري ومعدلات تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر السنوية، تمثل عوامل مهمة لتوزيع وتوظيف الموارد وتفعيل نماذج الكلفة والمنفعة للأطراف الفاعلة في جهود الدبلوماسية الاقتصادية (وزارة الخارجية، السفارات والمكاتب والملحقيات، الجهات الحكومية داخل البلاد المعنية بالملفات الاقتصادية والتجارية)، بالإضافة إلى أهمية استغلال القائم من الفرص غير المستغلة وتعظيم الفائدة من ميزات الاتفاقيات الحرة الثنائية والإقليمية وبقية أنواع الاتفاقيات الاقتصادية والاستثمارية.  

•     هناك مجالات رحبة يمكن أن تعمل من خلالها الدبلوماسية الاقتصادية وتتعاطى بإيجابية لصالح نمو العديد من القطاعات غير النفطية داخل البلاد، فرضتها معطيات الثورة الصناعية الحالية، وتعتبر أساسية لتحقيق العديد من أهداف الرؤية، مثل : ضمان سلاسل الإمداد، تحفيز سياسات وبرامج التجارة الإلكترونية والذكاء الاصطناعي، مجالات الأمن الغذائي، متطلبات الأمن السيبراني.

•     أهمية التنسيق الأفقي بين الجهات الحكومية والخاصة لتحفيز مجالات الاستثمار والتبادل التجاري النوعي وليس الكمي، وعند التعامل مع الفرص الاقتصادية الدولية الوازنة. هذا النوع من التنسيق قد يختصر الوقت والزمن ويطور من آليات العمل وأنماطه.

•     تستهدف رؤية "عمان 2040" تعزيز أدوار الشراكات مع القطاع الخاص المحلي والأجنبي في قيادة قاطرة النمو والتنويع خلال مراحلها التنفيذية. وهذا بلا شك يتطلب دورًا متجددًا للدبلوماسية الاقتصادية من خلال بناء جسور ثقة عتيدة مع مؤسسات القطاع الخاص وممثليها وعلى رأسها غرفة تجارة وصناعة عمان ونظيراتها من غرف التجارة واتحاداتها. وقد يكون الدور المتجدد والمنتظر المطلوب في هذا الشأن حري به أن يتحرى فعالية التنفيذ في مجال الشراكات وإزالة أية تحديات وتوسيع نطاق تشارك البيانات لتعزيز فرص التبادل والاستثمار.

•     تطوير "نموذج العمل الدبلوماسي الاقتصادي التشاركي بين جميع الجهات" والبناء عليه، فهو السبيل الأنسب لتحريك مسرعات الرؤية في الاتجاه الصحيح. وهناك العديد من النماذج الدولية ولكل دولة تجربتها، منها النموذج التنافسي (العديد من الجهات تتنافس مع حالة من الغموض وتنازع الأدوار) والنموذج السنغافوري (مقنن في الخارج بعدة بعثات دبلوماسية)، والنموذج القائم على تفرد جهة واحدة بموجهات العمل الاقتصادي الدبلوماسي.