جُلّها.. في ذمة الله

 

سعيدة بنت أحمد البرعمية

عندما نسمع أو نقرأ كلمة "هيمنة" نوقن أنّ الحديث عن الاستعمار متمثلا في أركانه الثلاثة التي لا يتحقق بدونها، المستعمر ومن وقع عليه الاستعمار والضحايا، حيث يبسط المهيمن قوته على المهيمن عليه، الذي يمثل الحلقة الضعيفة التي يتم من خلالها تحقيق النفوذ؛ وغالبا ما يتحقق عن طريق إلحاق الضرر بالضحايا؛ كونهم الحلقة الأضعف.

هناك كلمات رائعة من الأدب الشعبي العراقي، تناقلتها الأجيال وبها ترنمت، غناها العديد من المغنين العرب، أحببتُ سماعها بصوت القيصر كاظم الساهر، كنتُ أظنها في غرض الغزل؛ لكن اتضح أنها تكشف عن معاناة أم بوليدها والجزاء الذي آلت إليه بعدما وهبته قوتها وصحتها واشتدّ عوده.

كانت الأم من سكان قرية عراقية صغيرة على ضفاف نهر دجلة، يقال إنّ هذه القرية كانت تغرق في موسم الربيع من كل عام بسبب ذوبان الثلوج القريبة من منابع النهر، كان عمر الطفل حينها سبعة أشهر عندما حدث فيضان استطاع بقسوته إخراج أهل القرية؛ فأخذت الأم ابنها ووضعته على رأسها وجازفت في عبور النهر؛ للوصول برضيعها إلى الضفة الأخرى، فكانت عندما تغطّس في الماء ترفعه عاليا كي لا يتأذى؛ الأمر الذي يسبب لها الأذى، ويجعلها تشهق أنفاسها مع كلّ غطسة في الماء.

وبعد أنّ استطاعت العبور به للضفة الأخرى، استقرت هناك وبحثت له عن سبل الراحة، ومع مرور الأيام كبر الصغير ودخل المدارس، ثم أصبح شابا واختار عروسا للزواج، وهي المدينة له بما تملك من الصحة والقوة وهنت وشاخت، انتظرت منه البرّ والرحمة؛ فلم تجد؛ فالاستعمار أنساه حليب الأم وجعله ضعيفا لا يقوى على اتخاذ قرار، أشارت له زوجته بوضع أمه في دار المُسنين، فلم يعارض أو يتردد؛ أخذها وتركها هناك؛ فشعرت بألم الصدمة وضعف ابنها.

تذكرتْ ربيع عمرها الذي أفنته في رعايته؛ ممّا جعلها تخرج حزن جوفها في هذه الكلمات التي نقلت بدقة مُعاناتها والمخاطرة التي قامت بها من أجله، أثناء عملية النزوح الشاقة.

عبرت الشط على مودك وخليتك على راسي

بكل غطة أحس بالموت وبقوة أشهق أنفاسي

وسميتك أعز ناسي

كل هذا وقلت أمرك أحلى من العسل مرك

لقد استطاعت العجوز وصف عذابها والمصير الذي آلت إليه؛ فهوغير منصف ولا يكافئ تضحيتها؛ فوصفت ضعف الابن العاق صغيرا وشابا؛ بالرغم من أنها منحته قوتها، إلا أنه ظلّ ضعيفا رديء المعدن، ينتظر من يحركه كقطعة شطرنج؛ فأصبح لا يُعير أمه اهتماما ولا يهتم لأمرها ناسيا أو متناسبا سنوات الكفاح التي جعلت منه رجلا كما يُقال، وهذا ما سنجده في الأبيات اللاحقة من قصيدة العجوز.

أمر وعيوني بعيونك وأنت عيونك لغيري

فضلّتك على روحي وضاع وياك تقديري

قول أيش قصرت وياك وش تطلب بعد أكثر

على ذراعي تنام الليل وأقول ارتاح وأنا أسهر

 

وصلت لشاطئ أحلامك بتضحيتي وسهر ليلي

ولا مرة قلت ممنون وأنا الل منهدم حيلي

قول أيش قصرت وياك وش تطلب بعد أكثر

على كفوفي تنام الليل وأقول إرتاح وأنا أسهر

استطاعت تلك الكلمات البسيطة نقل معاناة أم وقصة عقوق مؤلمة في زمن ما، كما استطاعت أغنية "مسيطرة" التي تداولت في عصرنا على نطاق واسع، أن تفصح عن النوع ذاته، من النساء المهيمنات على أزواجهن، وعلى نوع من الذكور المنصاع للهيمنة، وعن المبدأ الذي يقود الحياة الزوجية عند فئة كبيرة من الناس، وقد لاقت الأغنية انتشارا محببا لدى الكثير من الناس.

مسيّطرة حمشيك مسطرة

تميل بعض النساء للزواج من كبش في ملامح آدمية، لديه قدرة عالية على الاستحمار، وتعمل على جعله لا يستغني عنها؛ فتشعره من خلال تصرفاتها الناعمة، أنها وحدها الجديرة بالإدارة، وما عليه سوى تنفيذ المهام ويبقى قريبًا رهن الإشارة، اعتادت أن "تمشيه مسطرة" دون أن ينظر للخلف أو لأيّ جهة؛ فتثنيه عمّا في دمه من المروءة، ويكتفي بتصنيفه في بطاقته الشخصية "ذكرًا"، التصنيف الذي لا يمتْ للرجال بأيّ صلة.

استطعتُ أنْ أخلص إلى أننا تعمقنا كثيرًا في المجاهرة بالتفاهة؛ فجميع القيّم التي يجب أنْ يتحلى بها الرجل والأنثى بات جُلّها في ذمّة الله؛ حيث إنّ أغنية "مسيطرة" تجاهر برغبة المرأة في التملك وفرض السيّطرة، وهذا ما نجده في مسرح الحياة؛ حيث أصبحت بعض النساء تمزق أواصر المحبّة بين الزوج وأهله، وهي التفاهة نفسها التي تحدثت عنها أبيات العجوز وجعلت ابنها يضعها في دار العجزة، الفرق بينهما يكمن في التورية والمجاهرة، إنما اللعنة ذاتها في كلّ عصر!