محمد بن رضا اللواتي
لا شك أنَّه قد انتاب بعضنا ألم عندما وجد يومًا أنَّ صفحة من الكتاب الذي عكف بكل نهم على قراءته مفقودة! أو تالفة وما عاد يستطيع أن يقرأ ما فيها..! غير أنَّ أقرب الحلول المتاحة تتمثل في البحث عن نسخة رقمية لمتابعة القراءة المُشّوقة، أو شراء نسخة أخرى منه. ولكن ماذا لو وقع التلف للكتب الثمينة وللنسخ الأولى لها؟ وماذا لو أنَّ مخطوطة نادرة ابتلاها الله بمرض بيولوجي؟
هذا السؤال راودني لأول مرة قبل عدة أعوام عندما سمعتُ أن المخطوطة الوحيدة والنادرة المُسماة "أجوبة المسائل السرورية" لمُحمد بن محمد المفيد والتي نسخها عبد الله التُستري قد تلفت "لم أتحقق من صدق الخبر"، ولكن مع تقدم العلم وجهود المهتمين في تطوير الخدمات الثقافية، قد أضحى لهذا النوع من الأزمات "عيادات" خاصة ترتادها الكتب المحمومة والمصابة بالإعياء، والمشرفة على الاحتضار.
كنتُ موفقا جدا عندما زرتُ إحدى هذه العيادات مؤخرا، والتي يحتضنها "مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بإمارة دبي"، هذا المركز الذي يشع أطيافا من الثقافة يصل ألقها إلى أقصى العالم بفعل الجهود المبذولة في المركز لجعل المعرفة متاحة لكل المثقفين سواء أكانوا بصدد القراءة والإلمام أم بصدد إتمام بحث أو إنهاء دراسة، أو ارواء لظمأ المعرفة.
وتحوي هذه المكتبة اكثر من 600 ألف عنوان، كلها متاحة للقراءة والإطلاع، والموقع الإلكتروني للمركز يقدم خدمة السؤال عن أي كتاب، وكذلك المخطوطات.. لقد عثرتُ في المركز على مكتبات أنشأها مؤلفون وكُتّاب وباحثون ثم أهدوها للمركز لتثري فكر الذين يتجولون في أروقته المُعطرة بروائح الأوراق.
وما أذهلني حقا هي تلك العيادة المتخصصة لعلاج الكتب المحمومة والمصابة بفقدان القدرة على بث المعرفة للضعف والإرهاق الذي سرى في صفحاتها بفعل الزمن. إنهم يقومون بتعقيمها بيولوجيا ويعالجونها كيميائيا، لأجل ترميم التلف، ثم وبعد إعادة تجليدها، يضعونها في صناديق لا تتأثر بالعوامل المحيطة.
وجدتُ في تلك العيادات أجهزة شبيهة بأجهزة التصوير المقطعي التي تصور الأعضاء الداخلية من جسم الكائن البشري، غير أنها مختصة بالأوراق التي أوشك عمرها على النفاد، وأخرى شبيهة بأجهزة إزالة الرجفان، لكنها لا تصلح لرجفان البشر، وإنما لرجفان الكتب من كثرة تداول الأيدي لصفحاتها، وأخرى شبيهة بأجهزة التنفس الصناعي إلا أنها تضع كماماتها حول أغلفة الكتب التي تكاد أن تتوقف عن التنفس، والمذهل في الأمر أن مجموعة منها نشأت فكرة صناعتها من المركز نفسه، وتحمل اسمه، من قبيل جهاز الماجد للمسح الضوئي، جهاز الماجد للوحات الكبيرة والخرائط، وغيرها.
لقد أخذت هذه العيادات على عهدتها إنقاذ وترميم أي كتاب أو مخطوطة بأية لغة كانت وفي أي مكان من هذا العالم.
وفي المركز يعكف مجموعة من الموظفين على رفع عدد محدد من الصفحات يومياً من أمهات الكتب إلى الفضاء الافتراضي بتحويلها إلى صفحات رقمية، ليجد هذا الفضاء الإسفيري آلافا من الصفحات تعوم فيه شهريا.
تحية تقدير لمعالي جمعة الماجد وإجلال لهذا المركز العريق، وما يقدمه من خدمات جليلة للثقافة والمعرفة، وشكر خاص لعيادات علاج الكتب الثمينة المهترئة، والتي تعيدها إلى رونقها وشبابها وكأنها ما هرمت يومًا.