امرأة بألف رجل

 

محمد بن سعيد الرزيقي

lruzaiqi4m@gmail.com

 

لا تزال مشاهدها ماثلة أمام عيني وهي تطوف في البيت، وبين غرفه وردهاته ذات الأقواس المثلثة، تتفقدنا في يقظتنا ونومنا، تطوقنا بحنانها الدافق، فيسكب في قلوبنا الطمأنينة، وتسري في أرواحنا السكينة.

كانت جدتي امرأة بألف رجل، كانت صبورة، ورحبة الصدر، وذات بال ونفس طويل، وإن نطقت نطقت بالحكمة والقول الطيب، وإن سكتت أحاطت بها هالة من الوقار، وكانت لا تألو جهدا في خدمة بنات جنسها ولو كان ذلك على حساب راحتها؛ فقد اشتهرت في أوساط القرية بخبرتها في تحضير بعض الأدوية من الأعشاب، واشتهرت أيضاً بخبرتها في توليد النساء، وكانت تعفو وتصفح عن كل من أساء إليها، وإذا أوت إلى فراشها من الليل أوت إليه وهي سليمة الصدر.

القرية التي كانت تقطنها جدتي هي قرية وادعة بين أحضان الطبيعة الساحرة، تتوسطها غابة الغاف الوارفة الظلال، وتطوقها من جوانبها الثلاثة كثبان الرمال الفضية؛ فيما كانت القرية من جهتها الرابعة مطلة على واحات النخيل واللمبا والليمون.

حينما يأذن النهار بالرحيل، وتتوشح السماء باصفرار غروب الشمس، وحينما تأوي أسراب الطيور إلى أوكارها وأعشاشها وتنقطع عن الأسماع أصواتها الصادحة بتغاريدها الجميلة، كانت جدتي في هذه اللحظات تعد لنا فرشنا، فتقوم بنفضها مما قد علق بها من غبار أو غير ذلك، وتهيئ لنا مراقدنا على النحو الذي أعتدنا عليه، فيما كان لسانها لا يفتر من قراءة التعاويذ التي كانت ترددها في كل مساء.

فيما كانت والدتي - حفظها الله - تنزل من رأسها آخر دلوٍ من الماء الذي أتت به من بئر القرية، ثم تشرع في إعداد وجبة العشاء، فتقوم بإشعال الحطب الذي جمعته من براري القرية وسيوحها، والخوص الذي جمعته من حطام المزارع المجاورة، كنَّا نرمقها وهي تأخذ أول قبضة من العجين فتبسطها على الحديدة بشكل دائري، وكنَّا لا نعبأ بالدخان الذي ينتشر في المكان ونحن ننتظر أول خبزة من يدي أمي؛ فقد كان طعمها لذيذا وشهيا خصوصا إذا كانت الخبزة ناضجة تماما، ويشوبها شيء من الاحمرار فهي ألذ ما يكون.

في الجانب الآخر عندما يشتد البرد، وتسمع صكيك الأسنان، كان والدي - رحمه الله - يعد لنا ما نحتمي به من صردة البرد، فيقوم بتورية النار في إحدى زوايا سور المنزل (الحوش)، ويدعوننا إليها؛ فنتحلق حولها متوجهين بباطن أكفنا وأقدامنا إلى وهجها؛ فنحس بدفئين؛ دفء النار الذي يسري في أجسادنا، ودفء حنان والدنا وهو يدعوننا لنتدفأ من صرة البرد القارصة.

حتى إذا أوينا إلى فرشنا، كانت جدتي تقص علينا القصص، فقد كانت قصصا خيالية، ونحسبها ونحن صغارًا واقعية، كانت أقرب إلى قصص ألف ليلة وليلة، حتى إذا ارتخت أجفاننا، وأسلمنا قيادنا للنوم، قامت هي تزملنا، وترتل علينا تعاويذها المعتادة.

كانت إذا مرض أحدنا، لا يهدأ لها بال، ولا يغمض لها جفن، ولا يطيب لها المقام ولا الجلوس، فهي قائمة جالسة على رأس المريض منَّا حتى يشفى؛ فتطببه بما تملك من خبرة بأدوية شعبية مستخرجة من الأعشاب، وترقيه بتعاويذ كانت تحفظها، وطوال الليل تتحسس جسده؛ فتمرر كفها على موضع القلب لتتبين سرعة دقاته، وتضع كفها على جبينه لتتبين ارتفاع حرارته، فإذا انخفضت حرارته اطمأنت وسعدت وإلا فهي كما وصفت لكم.

كان مما تخبرنا به دائما، وتكرره على مسامعنا حديثها عن أحد المواقف الصعبة التي مرت بها في حياتها؛ حيث قالت فيما معناه: "في ثمانينات القرن الماضي، وفي أحد ليالي الشتاء حالكة الظلام، التي لا تكاد تتبين فيها يدك، ولا ترى فيها ولو بصيصا من الضوء إلا ضوء البرق، ولا تسمع فيها صوتا إلا صوت صفير الرياح على شقوق الأبواب والنوافذ، وحفيف أشجار الغاف، ودمدمت الرعود، ووقع صوت الماء الساقط من المزاريب، وهدير الأودية، وصوت هيجان البحر،  في هزيع تلك الليلة قمت أتفقدكم في مضاجعكم كعادتي كل ليلة وأنتم صغارا، فإذا أنت لا وجود لك في مضجعك ولا أبوك أيضا، ثم أخذت اتفقدكما في غرف البيت، وكل زاوية من زواياه فلم أعثر عليكما.

وكان أهل القرية في تلك الليلة الباردة قد أوصدوا من دونهم الأبواب والنوافذ، وغطوا في سبات عميق، والليل كما وصفت لك لا يستطيع أحدٌ الخروج من منزله إلا إذا كان الخطب عظيماً من مرض عضال أو غير ذلك، لم يتبين لي أين أنتما، وإلى أين ذهبتما، ولم أجد من يفيدني عنكما بما يهدي من روعي، ويبعد عني الخيالات السيئة، فما هي إلا هنيهة حتى أخذت الهواجس تعمل عملها، والخيالات تصور لي الشر بأبلغ ما يكون عليه، فقد اسودت الدنيا أمام عيني، واجتمع لي سوادان؛ سواد الليل البهيم، وسواد الدنيا أمام ناظري بخروجكما من المنزل على غير موعد.

خرجتُ من المنزل هائمة في تلك الليلة الدهماء لا ألوي على شيء، وشققت طريقي إلى حيث يسكن أخي في القرية المجاورة  بغير شعور مني، وخضت بقدمي كل ما يقابلني من سيول وتجمعات مياه، وما أعلم أين وضعت قدمي، وماذا وطأت بها، وفي أثناء سيري هذا جاءني إحساس غريب أحسست بتجمد الدم في عروقي، وقشعريرة تسري في جسدي، ونظرت بجانبي فإذا ضبعٌ مفترسة تبينتها من  الشرر الذي كانت تخرجه من عينيها، فارتعدت فرائصي؛ لكنني لم أحفل بها وواصلت المسير حتى وصلت القرية وارتميت بجسدي المنهك في أحد زوايا بيت أخي وقد هالهم ما رأوا من حالي، فقد بللت الأمطار ثيابي. وأصابني البرد ثم بعد ذلك علمت أنكما لم تذهبا لبأس أصابكما؛ وإنما كان خروجكما بسبب أنه جاء طارقٌ يطرق الباب يطلب من أبيك نجدته ومساعدته في سحب سيارته العالقة في أحد الأودية؛ حيث إن والدك كان عنده سيارة الدفع الرباعي.... انتهى.

وذات مساء حزين، ارتفعت روحها إلى السماء ملبية نداء ربها، وبوفاتها انطفأت شمعة كانت تضيء البيت بنورها البهي. وفقدت القرية امرأة كانت من خيرة نسائها، وأقفرت طرقاتها وسككها من وقع أقدامها، التي لطالما سلكتها لزيارة أرحام أو لتطبيب مريض، أو لمواساة مفجوع، أو لتلبية دعوة.

اليوم على الرغم من مرور أكثر من تسعة عشر عامًا على مغادرتنا، إلا أننا ما زلنا نستذكر مآثرها، وشجاعتها، وشهامتها، وكرمها، وحنانها الذي وسع الجميع. ونستخلص من سيرتها الزاكية، وخصالها الحميدة معاني الشجاعة، والكرم، والصبر، والحنان، والمثابرة، والمجاهدة.

رحمها الله ورحم أموات جميع المسلمين.

تعليق عبر الفيس بوك