قدِّم مكانةَ موظفك

 

د. صالح الفهدي

يتمثَّلُ الناسُ بقولِ الشاعر "أكرم طبيبكَ إن أردتَ دواءهُ"، وطبيبُ المُؤسسات هو موظفها وليس زبونها ولا مراجعها. وإذا كانت هناك هيئات تحمي حقوق المستهلك، فإنِّها لا تحميها على حساب الطرف الآخر صاحب الخدمة أكان مؤسسةً خدمية، أو نشاطًا تجاريًا، وهذا ما يسيءُ فهمه بعض الزبائن والعملاء حتى امتلأتْ ملفَّات الشَّكاوي بأتفهِ الأسباب.

إنَّ المؤسسات التي تقدِّر موظفيها وتضعهم في المقامِ الأول قبل المُراجعِ أو الزَّبون هي مؤسسات تتطوَّرَ وتتقدم، شرطَ أن لا تدعم بطرهم وتجاوزهم حدود المهنية والأدب على الطرف الآخر، إنَّما القصدُ أن تشعرهم بالمكانة التي يجب أن يحظوا بها لدى المؤسسة إن راعوا معايير المهنية، والأخلاق.

أذكرُ أن موظَّفًا قد مرضَ في إحدى الدول الغربية فاستدعت شركته طائرةً خاصة لنقله إلى المستشفى، ثم نقلت أُسرته لتكون بجواره، وبعد أن شُفي تلقَّى عرضًا ماليًا أكبر من شركةٍ أُخرى لكنَّه أبى أن ينتقل من شركته التي اعتنت به في وقتِ مرضه، وقد ترسَّخ فيه الانتماء إلى هذه الشركة التي جعلت له مكانة يستحقها.

ذكر جاي ليونارد (Jay Leonard) في مقالةٍ له بعنوان: "خمسة أسباب تثبت أن الزبون ليس دائمًا على حق" أن وكالة سفر "روزنبلوت" تم بيعها إلى شركة أمريكان إكسبريس وطوّرتها إلى الأفضل فكتب رئيسها التنفيذي هال روزنبلوت كتابًا قال فيه "ضع الزبون بالمقام الثاني، وضع الموظّف بالمقام الأول، وشاهدهم يصعدوا بك إلى المُقدمة". ويضيف: "عندما تضع الموظّفين أولًا فإنّهم سيضعون الزبائن أولًا وسيكونون سُعداء، والموظّفون السّعداء في العمل يقدمون أفضل خدمة للزّبائن، لأنّهم سيهتمَّون أكثر بالنّاس الآخرين بمن فيهم الزبائن، إذ يملكون الطاقة فهم سعيدون وهذا يعني أنهم سيتمتعون بالحديث والتفاعل مع الزبائن أكثر حماساً يملكون الطّاقة".

وفي هذا السياق، فقد أُجري بحثٌ محلِّي على مؤسسات من القطاعِ الحكومي يشخِّص أسباب استقالات موظفين أو تقاعدهم، فخَلُص إلى أن في مقدمة الأسباب ليس الجانب المادي المتعلِّق بالأجر الشهري، وإنَّما تقدير مكانة الموظف واحترام أفكاره. على سبيل المثال، فإنَّ عددًا من الموظفين في أحد القطاعات الرئيسة قدَّموا استقالاتهم أثناء جائحة كورونا، لكن الاستقالات رُفضت بحجَّة أنَّ القطاع بحاجة إلى خدماتهم في هذه الأزمة الصحية، ووعدوا بتحسين أوضاعهم بعد انزياح الجائحة، لكن وبعد أن تضاءلت أخطار الجائحة، أعلن لهم بأنَّ من يُريدُ التقاعدَ فليُقدِّم طلبه!

ولنتصوَّر الأَثر العكسي لطاقة وجهود هؤلاء الموظفين الذين وعدوا في البداية بتحسين أوضاعهم ثم دعوا للتقاعد عن الخدمات التي يقدِّمونها للمراجعين، ولا يجب أن نتوقَّع منهم تقديمها بجودة عالية، وبأسلوبٍ أمثل، بل سيقدمونها بأدنى مستوى من الجودة، وأقلَّ معدل من الجهد، والسبب في ذلك يعود إلى مؤسستهم التي نكصت في وعودها لهم.

ولنا أن نسلِّط الضوءَ على المعلِّم الذي إن بحثنا في الدول المتقدِّمة في تعليمها وجدنا أن مكانة المعلم فيها مرموقة، وأجوره المادية ومميِّزاته عالية، في المقابل نجدُ أنَّ المعلم الذي لا يحظى باهتمامٍ أكيد، غير سعيد. المعلم الذي يُطلَب منه أن يقوم بواجباتٍ ومهامٍ لا حصرَ لها دون مقابلٍ ماديٍّ ومعنويٍّ يوازيها لا يجب أن نتوقَّعَ منه أن يقوم بذلك بأحسن وجه، لأنَّ الحقوق لا تضاهي الواجبات، لكن لو مُنحَ المعلم قدرًا كافيًا من الأجر الشهري يريحه من همِّ التفكير في الالتزامات المالية الضاغطة على ذهنه، فإنَّه حتمًا سيقدِّم أقصى ما في طاقته، وسعة جهده، ولو قُدِّرت له مسؤوليات لا تثقل كاهله، لقام بها بجودة، وأسلوبٍ أمثل.

نعم "أكرم طبيبك إن أردت دواءه" وطبيبك موظفك الذي إن رضي بالإكرام، قام هو بدوره في إكرام المتعاملين مع المؤسسة، يقول هيرب كيهلير (Herb Kelleher) المؤسس المشارك لخطوط "ساوث ويست Southwest Airline": إنَّ على الشّركات أن تضع موظّفيها في المقام الأول وسوف يرون موظفيهم– في المقابل- يضعون الزّبائن أولًا، ويقول رجل الأعمال المعروف ريتشارد برانسون (Richard Branson) إن الأُسلوب الذي تعاملُ به موظفيك، هو الأُسلوب الذي تعامل به عملاءك.