مسغبة الكياسة

سعيدة بنت أحمد البرعمية

"أنت شبعان" جملة متداولة كثيرا في ظفار، فعندما يتعجب أحدهم من فعل قام به آخر يرمقه بنظرة قائلا: أنت شبعان، تحمل الجملة دلالة الغرور وربما الاعتداد بالنفس، بعيدا عن الدلالة الحسية للكلمة، في المقابل نجد أنّ المفردة "جوع" قليلة الحروف كثيرة الدلالة أيضا.

لا شك أن الجوع شبح مخيف يلاحق بنو الغبراء أينما وُجدوا، فالكثير من البلدان تعمل على حماية شعوبها لوقايتهم الاقتراب من خط الفقر، ورغم كلّ الجهود إلى أنَّ الكثير منهم ظلّ يجوع!   خَبِرَ كلٌّ منا أنّ يأكل وماذا يأكل وأيّ الأصناف أحبُّ إلى معدته؛ بل ويجيد الطريقة التي توصله إلى ما يقوده إليه جوعه أو نهمه؛ لاسيما مَنْ يشتهي أكل الأكتاف؛ فهو يدرك جيدا من أين تؤكل الكتف وكيفية إلتهامها كقطعة حلوى طريّة وناعمة.   

هل سبق وأنْ وجدت كتفك لقمة طرية في فم أحدهم! قريب، صديق أو زميل، بالتأكيد نعم؛ فهناك من يحلو له التواجد بقربك لاعتياده خضم كتفك، كنتُ أعلم كما تعلم أنت أنّ هناك من يهرول ببراعة فوق الأكتاف من أقصرها إلى أطولها، إلاّ أنّ هناك صنف تجاوز ببراعته مرحلة الهرولة؛ فصار يسرط  الكتف المجني عليها سرطا.  

هناك مثل عربي شهير "يعرف من أين تُؤكل الكتف"، يُقال إنّ المثل يُضرب به للدواهي من الناس الذين لديهم مهارة في الوصول إلى أهدافهم؛ لكني لا أتفق كثيرا مع وجهة النظر هذه؛ فمن لديه مهارة حقيقية نابعة من ذاته وفكره في الوصول إلى أهدافه، لن يختبئ خلف كتف أحدهم ليبتلعها وكأنها لم تكن؛ إنما يعمل ويبتكر كيّ يصل هدفه بتضلُّع فكره لا بفكر غيره، برأيي أنّ المثل يتفق مع من يستغل قدرات وأفكار الآخرين كعتبات المصاعد محاولا من خلالها ملئ فراغ رأسه.  

  الجائعون كُثر؛ لعلّ أغرب جوع تعرّضت له النفوس، ذلك المتوغل في الجماجم المشّبعة بمجاعة الفكر، رؤوس فارغة لاهثة خلف السّراب، هؤلاء كدّوا في حياتهم كدًّا ذي مسغبة، تخماء البطون جياع الجماجم، لا يتردد أحدهم في خطف بحث صديق اجتهد فيه سنوات، أو نشل فكرة زميل على مرأى ومسمع من أهل الاختصاص!  لدى الجائعون إصرار عجيب في وضع أنفسهم دون خط الفقر؛ يتنفسون العوز رغم عيشهم حياة العجرفة الملفتة، كالطاووس جميل الشكل قبيح الصوت.  

وهذا ما نجده تماما في تعريف الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط للتنوير على أنه "خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه من خلال عدم استخدامه لعقله إلاّ بتوجيه من إنسان آخر".

ماذا تعمل ولِمَ تعمل وما الهدف والغاية، هل تعمل لمجرد العمل أم تعمل ليبقى عملك حاملا بعض نفسك، بعض تعبك، بعض فكرك؟   هل عندما تختلي بذاتك في لحظات من التجلّي والحقيقة، تصنف نفسك جائعا أم شبعانا، وإنْ كان التصنيف جوع فماذا يمكن أنْ يسدّ جوعك، وإنْ كان العكس فما الذي أشبعك ! وهل تكتفي بما يسدّ جوعك أم تسعى للشّبع تلو الشّبع، وماذا يمكن أن يوصلك لمرحلة الشّبع إنْ لم تصلها بعد؟ 

أعتذر للقارئ عن كثرة الاستفهام؛ لا شك أنْ الجوع أمر سيء، لم يكتف بتدمير الأجساد في البلدان ألتي طالها شبح المجاعة؛ بل زحف إلى أن وصل أدمغة البعض حاملا راية النصر في الأمصار الخالية تماما من الفاقة، فالمجاعة في كلا الأحوال عدو ساحق سواء هاجم البطون أو اتجه للعقول. 

لقد توصل الأطباء مؤخرا إلى ما يسمى بالتكميم لتقليص البطون التي أرهقها الشّبع المفرط، بينما ظلّ العجز قائما تجاه المجاعة بنوعيها الحسية والمعنوية؛ فتوغلت حيث توغلت وتناسلت نسلا محرما ومهينا، دون اكثرات الجوع لفعل أو نتيجة؛ إلاّ أنّ مجاعة الدماغ أشدّ سُحتا من مجاعة البطون؛ كونها من اختيار الجائع نفسه وهذا ما يمكن التوصل إليه من خلال تعريف التنوير لإيمانويل كانط، لذا فإنّ جائع الفكر سيظل طاوٍ خاوٍ مهما ادعى التّناص والاقتباس والتضمين، متجاهلا في ذلك كلّ الحقوق والتوثيق.