معاوية الرواحي
تضربُ العربُ هذا المثلَ في حكايةِ الانتقامِ الشهيرة التي قامت بها الملكةُ الزباء، والتي قتلت جُذيمة بن الأبرش، والذي كانَ ابن اخته واسمه عمرو بن عُدي [في حكايته المثل الشهير بيدي لا بيدك يا عمرو].
مُختصر الحكاية أن حبكةً للانتقام من الزبَّاء قد استدعت خداعَها بانقلابِ أحد المُخلصين لعمرو بن عدي مدعيًا أنَّه خرج من ولائه لسيده، واسمُ من أشار له المثل (قصير)؛ حيث قام بجدع أنفه، وتشويه حصانه، وهربَ لاجئًا إلى حِمى الزبَّاء التي وقعت في شرِّ أعمالها في نهاية الحكاية. هذه الحكايةُ مضرب أمثالٍ كثيرة، وبغض النظر إن كانت من تأليف خيال المؤرخين الإبداعي، أو مما صنعته الذاكرة الشعبية بحسها التفاعلي، فإنها لا تخلو من الكثير من الحِكم التي يمكن أن نُسقطها على الواقع الوجداني لكثير من الناس.
ما هو سلوك إيذاء النفس؟ عدا اعتباره مرضًا نفسيًا يحتاجُ صاحبُه إلى المساعدة والعلاج، وما هو فهمنا لهذا السلوك؟ هُنا يبدأ التعقيد العلمي الذي وصل لنتائج جيدة بشأن هذا الأمر، ولمن أحبَّ أن يبحث سيجد الإجابات؛ سواء من حيث عُلماء الأعصاب، أو البحوث التي تناولت عمل الدماغ، وغيرهم من السلوكيين، والأطباء النفسيين، والمعالجين. لكن، ماذا عن الوظيفة الاجتماعية لإيذاء النفس؟ كما في حكاية قصير، الذي جازف بجدع أنفه ليُحقق انتقامًا مروعًا لسيده من التي قتلت خالَه، والذي- كما يبدو- كان متصالحًا في اللحظة الأخيرة وقال مقولته الشهيرة: "دعوا دمًا ضيعه أهلُه".
تشويه النفسُ جسديًا يظهرُ في بعض الحالات المُتطرفة، والمُترفة، فالذين يحبون الأوشام يُعلنون موقفًا متمردًا ضد الشكل النمطي، رافضين تعريفات مثل: الوسامة أو الشكل المقبول اجتماعيًا، وهُم في بعض الدول أقلُّ حظًا في الحصول على الوظائف، ويشتكون من هذا التمييز، ولعل كلامَهم صحيحاً بعض الشيء. ومع كل الصوابية السياسية التي تسيطر على إعلام العالم الغربي، فإن الواقع الإنساني يتشابهُ في نمطيته. وإنسان مليء بالأوشام يختلفُ عن ذلك الذي ملأ وجهه بمئات الحلقات المعدنية، وهُناك من يفتح ثقبًا في وجنته، أو حفلُ زفاف والعروسان معلقان من خطاطيف حديدية تسبر أنسجة جسديهما. نعم.. هذه من الأشكال غير الإجرامية لتشويه النفس، والتشويه الجسدي أحد أشكال ذلك.
في عوالم الجريمة في شوارع ليس لها ذلك الحظ من الترف، وأن يُعالجَ الإنسان أو ينصح بالذهاب لمختص، الحكاية تختلفُ؛ حيث يعيشُ إنسان ضائع فاقدا الأمل ولا يعبأ أن يموت في ثانية، المجرم الذي لديه سلاح يتقبل الموت، وهُناك مجرمٌ آخر بلا سلاح، ولعل أبسطها الحكايات المتداولة لمشوهي الوجوه، ماذا يفعل هؤلاء؟! ببساطة بالغة ما أن تتعرض له يُخرج موسًا يحتفظ به في جانبِ فمه ثم يبدأ بقطع وجهه أمام عينيك. رسالته واضحة وبسيطة، إن كنت أفعل ذلك بنفسي؟ هل تتخيل ما أنا قادر على فعله بك؟
يظنُّ كثيرون أن سلوكَ تشويه الذات، الجسدي، أو المعنوي يعني بالضرورة نفسيةً منهارةً، أو إنسانًا يبحث عن الشفقة.. نعم، قد يحدثُ ذلك في حالات كثيرة، هُناك حالةٌ تخفى عن الجَميع، حالةُ الذي يربّي القسوةَ في نفسِه، والذي يستعد لفقدان اعتبارات كثيرة من أجلِ هذه القسوة، الطيبون الذين عانوا في هذه الحياة من غفلتهم، وسذاجتهم يفعلون ذلك، والبسطاء يفعلون ذلك، كم مرةً تسمع حكاية من الأكاذيب عن الإنسان الذي ضرب شرطيًا؟ ماذا عن الذي يفوح برائحة الخيال ويخبرك كم سرقَ، وكم نهبَ؟ بل وبعضهم يصل إلى ابتكار حكايات عن تهريب المخدرات! حكاية مكذوبة وهو يعلم جيدًا أنها ستُؤدي إلى مراقبته، وربما في بعض الدول اعتقاله بدون سبب، مع ذلك يحب البعض هذه القسوة، فالذي يعيش حياته خائفاً من كلام الناس لا يعبأ بعدها بما يقولونه، وأخطر هؤلاء ذلك الانتقامي الذي يقول لك بوضوح: إن كنت هكذا أؤذي نفسي؟ تخيل كيف يمكن أن أؤذيك؟
السياقات المرضية لهذه الأفعال كثيرة، والنظريات المتعلقة بعلاجها كثيرة جدا، كل من يعاني من ذلك حكايةٌ تختلفُ عن الأخرى. الصورةُ النمطية السطحية عن شخصٍ يقوم بإيذاء نفسه ليست دائما مرتبطة بتصورك عن الحفاظ على النفس، الذي تراه يقطع يديه بسكين لا يفعل ذلك بالضرورة لانهياره، قد يفعل ذلك نتيجة غضبه، والذي يقطع وجهه بالموس لا يفعل ذلك لكي يخيفك بل يفعل ذلك لكي يؤكد لك أنه قادر على هذا الفعل، والذي يشوه نفسه معنويا يريد أن يقول لك: أنا مشروع إنسانٍ قاسٍ، فقدت تعاطفي مع نفسي ولم أعد أعبأ بك. جلدُ الذات، وتشويه وإهانة النفس من الإنسان نفسه مؤشر خطرٌ للغاية، وأن تستخف بذلك بحجة أنَّك تؤلف حججًا سريعة، وتفترض افتراضات سطحية، وتعتقد أنك تتعامل مع إنسانٍ منهارٍ، ولا سيما إن كنت نرجسيًا لديك شعور بالعظمة وتتقن فن تسميم الآخرين، فهذا الذي يجلدُ نفسه ويهينها أمامك لا يفعل ذلك لأجلك، يفعل ذلك ليخدر جميع الآلام المتعلقة بالخطاب السام الذي يعاني منه، يفعل ذلك لكي يكون سامَّا، وانتقاميًا، وقد يطول الوقت به فينهار، أو يطول الصبر به فتجد نفسك أمام مأزقٍ غير متوقع، من إنسان ظننت أنَّه خسرَ نفسَه للأبد فإذا بالانتقام منك هو الذي يُعيد له الذات التي شوهها ولم يخسرها.
تقوية النفس بجلدها سلوك له عواقبه، أبسطها العاقبة الاجتماعية، وقد تؤدي بالبعض إلى الانتحار، أولئك الذين بالغوا في إيلام أنفسهم حدّ الانكسار، في جانبٍ آخر، قد تؤدي للقتل، وهؤلاء مشاريع مجرمين بعضهم بلا خط عودة، وبعضهم يقف على الخط الفاصل بين القسوة والتعاطف، وبين الضمير والحقوق، وبين الذهاب لنهاية الطريق أو الوقوف على تلك العتبة التي تفصل بين الإنسان الطبيعي الذي سيقول له العقلاء الطبيعيون: أنت بحاجة إلى العلاج. وذلك القاتلُ الذي يتبلور ببطء ليفجع العالم بجريمة شنعاء لم يكن يعلمُ إنسان كيف كانت تتطور ببطء في نفسه المرتبكة، والسقيمة.
لا تصدق من يجلد ذاتَه، ولا تتعاطف معه، إنِّه موضوع وقتٍ حتى يعرفُ هو لماذا يفعل ذلك، وإن كنت ممن يساعدونه على ما يفعل، ستنالُ من نفس الكأس ولو بعد حين، لكل إنسان طاقة على تحمل الألم وبعدها إما ينهارُ فيكون حسابك بيد الله، أو ينتصر على نفسه لتجد عدوًا لدودًا لم تكن تحسب حسابَ استخفافك بما يمر به، كما لم تحسب حساب ما أصبح قادرًا على فعله بعد أن أكمل مراتب القسوة وأصبح لا يشعرُ مطلقا بالتعاطف مع نفسه أو غيره.