"الاقتصاد البنفسجي" وتعزيز القطاعات الثقافية والاجتماعية

د. بدرية بنت ناصر الوهيبية **

يُؤدي الاقتصاد البنفسجي دوره في حماية التراث الثقافي الوطني والقيم والعادات والتقاليد، فضلاً عن دوره المتنامي في تعزيز الاقتصاد الوطني الذي يُعد أهم ركائز رؤية عمان 2040، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، لما يتضمنه من توظيف للسياحة الثقافية، وإنتاج المبادرات والصناعات الثقافية والإبداعية وإضفاء الهوية الوطنية عليها وإكسابها قيمة مضافة وميزة تنافسية، إضافة إلى دوره المستمر في نمو الناتج المحلي بعيدًا عن تقلبات السوق ومتغيراته. وكون سلطنة عمان تزخر بإرث ثقافي يجدر بنا الاهتمام به واستثماره بالشكل الملائم واستشراف السياسات والتشريعات الداعمة لتطويره، وتضمن نمو المبادرات والصناعات الثقافية والإبداعية.

ويعد الاقتصاد البنفسجي حديثا من الناحية العلمية ويتبنى تعزيز عدة قطاعات ثقافية واجتماعية واقتصادية، ويركز على استثمار الجانب الثقافي في كل قطاع، وتشمل الثقافة التي يبنى عليها هذا الاقتصاد "النتاج الفكري والإبداعي والأدبي والفني واللغوي والمهني، وفي الحضارة الشاملة بمؤسساتها ومنجزاتها ومظاهرها وأسسها المادية والمعنوية". وبالنسبة للمفهوم الدقيق للاقتصاد البنفسجي فما زال هناك اختلاف في تحديده، ويعود ذلك لاختلاف توجهات الباحثين والعلماء وأسباب نشأته، ومن بين أهم تعاريفه نذكر ما عرفه المنتدى الدولي الأول: "...الاقتصاد البنفسجي هو أوسع بكثير من اقتصاد المنتجات الثقافية؛ بل هو احتضان للبعد الثقافي لأي سلعة أو خدمة، والاقتصاد البنفسجي هو جزء من منظور أخلاقي، وأنه يسهم في إثراء وتنويع البيئة الثقافية ..."، وحسب نتائج المعرض العالمي للاقتصاد البنفسجي بباريس من 11 إلى 13 أكتوبر 2011 بشعار "النمو والبيئة الثقافية" أوضح أن أصل اختيار اللون البنفسجي للدلالة على الخيال وهو لون الثقافة عالميًّا.

ويسهم الاقتصاد البنفسجي في ترسيخ الهوية الوطنية في المجالات السياحية والتعليمية والصحية والصناعية وغيرها، عن طريق إضفاء الهوية الوطنية التي تمثل ثقافة المجتمع ضمن سلعها وخدماتها المقدّمة للسوق المحلي أو المصدّرة للسوق الخارجي، لإبراز الثقافة الوطنية ونشرها عالميًا وكذلك للمُحافظة عليها واستدامتها.

ومن الفوائد الثقافية التي يحققها الاقتصاد البنفسجي كذلك المحافظة على الهندسة المعمارية، والفن، والتراث، والخيال، والتعلم، والمهارات، والتفرد، وفي ضوء نظريّة الانتشار الثقافي الذي يُعزز مفهوم الندرة النسبية من حيث إنّ الخدمات والسلع المحليّة تبقى متوفّرة بمعدّلات نسبيًّا قليلة مقارنة بالسوق العالميّة، وتلك الندرة هي في حد ذاتها ما يُجسّد قيمتها الفعليّة في عالم الاقتصاد. لذلك فإنَّ على المؤسسات الوطنية السعي لإبراز تلك المنتجات المحلية ذات الهوية الثقافية والقيمة النسبية والميزة التنافسية من خلال تسويقها وتطوير أساليب عرضها وترويجها.

كما أن للاقتصاد البنفسجي أبعاد أخرى منها؛ بعد بيئي، وبعد اجتماعي، وبعد سياحي، أمّا استثماره للبعد البيئي من خلال استخدام المصادر والخامات الوطنية في إنتاج المنتجات الصديقة للبيئة. وأمّا البعد الاجتماعي؛ فإن هذا النوع من الاقتصاد يركز على المناطق الريفية والساحلية وعلى فئات ذوي الدخل المحدود، وفئات الرعاية الاجتماعية، والباحثين عن عمل، فتعمل الدول على تعزيز الاقتصاد البنفسجي في تلك المناطق وعلى تلك الفئات من ذوي الاحتياجات الخاصة عن طريق النشاطات الإنتاجية المحلية، وتشجيع الأسر والباحثين عن عمل على تبني المشروعات المحلية التي تركز على المنتجات والصناعات الحرفية الطبيعية والتقليدية والثقافية والإبداعية، التي تعمل بدورها على تعزيز المكون المحلي والثقافي ونمو العائد الاقتصادي.

وتؤدي المشاركة المجتمعية كذلك من قبل المؤسسات الأهلية  دورًا بارزًا في تفعيل الاقتصاد البنفسجي والمشاركة في تحقيق الرؤى الوطنية؛ من خلال تمكين بعض الفئات، وإنشاء المشروعات الثقافية، وتوجيه أصحاب الأعمال والحرف إلى بناء مبادرات وصناعات ثقافية بناء على الاحتياجات الاجتماعية؛ لذلك فإنَّ نتائج هذه التشاركية تعزز من سبل التكامل والتكافل الاجتماعي والابتكار، والاهتمام بشكل أكبر بالمصلحة العامة بما يخدم المجتمع والاقتصاد الوطني، وتوجد في سلطنة عمان مجموعة من التجارب المجتمعية في الاقتصاد البنفسجي؛ كتجربة مشروع "تجميل قرية أمطي بولاية إزكي" الذي هدف إلى تخليد اللحظة الأثرية بالفن التشكيلي وتحويلها لقرية سياحية بمشاركة مجتمعية من قبل الفنانين والأهالي، وكذلك المؤسسات والصالونات الثقافية كصالون المواطنة الثقافي، وجمعيات المرأة العمانية، حيث اهتمت هذه المؤسسات بفكرة تعزيز الصناعات الثقافية والتراثية والإبداعية التي تسهم في رفد الاقتصاد البنفسجي واستثمار مكوناته من منطلق تعزيز الهوية العمانية والحفاظ على التراث العماني الأصيل.

أما البعد السياحي، فيكمُن في إحياء الموروث الثقافي والتاريخي واستثماره في قطاع السياحة، وبالتالي الاستفادة منه اقتصاديًا، وقد أبدع الشباب العماني في مجموعة من المشروعات في استخدام الموروث وإحيائه بطرق إبداعية كإنتاجهم لبعض المشروعات والمبادرات والصناعات الثقافية وتطويرها مثل؛ مشاغل الحلي والفضيات العمانية، وتطوير المنازل القديمة وتحويلها إلى متاحف ومزارات، مثل متحف قصرى في الرستاق، كما تم تحويل بعض المنازل إلى مقاهٍ ونزل جميلة ذات طابع عماني جميل محتفظة بفن العمارة العمانية مثل مشروع القرية الأثرية مسفاة العبريين التابعة لولاية الحمراء بمحافظة الداخلية، وأدرجت في سجل القرى السياحية العالمية حيث تم اختيارها من قبل منظمة السياحة العالمية. وكذلك "بيت الغشام" الذي جمع الثقافة والتراث تحت سقف واحد، ودخل المتحف إلى قائمة المتاحف العمانية، وهو عبارة عن بيت عماني أثري أثث بالطريقة التقليدية، ورُفد بالمقتنيات التراثية واحتوى على مسرح مفتوح وركن تجاري يقدم وجبات ومنتجات محلية وهدايا تذكارية ومكتبة تضم صنوف العلم والمعرفة.

لذلك.. إنّ الانتشار الثقافي للسلع والخدمات بمختلف مجالاتها في أي دولة يعود على كل البرامج التنموية فيها بما في ذلك برامج الرعاية الاجتماعية والسياحة وغيرها، ومن هذا المنطلق يعد الاقتصاد البنفسجي توجها اقتصاديا جديدا ينتهج البعد الثقافي ويهتم بتعزيز التنوّع السلعي والخدماتي لتكريس مفهوم الاقتصاد المتنوّع والذي يغطّي احتياجات المجتمع وفئات الرعاية الاجتماعية بشكل مباشر ومستدام من الدخل الإجمالي السنوي، بما يضمن استدامته وابتعاده عن تأثير تقلبات السوق المتغيرة باستمرار.

من الضروري إيجاد سياسات وتشريعات واستراتيجيات موحدة في هذا المجال بهدف توحيد الجهود، وتحفيز الشباب والباحثين عن عمل والفئات المستفيدة من الرعاية الاجتماعية لتبني المشروعات البنفسجية الثقافي وتأهيلهم، وتشجيع الابتكار واكتشاف مواهب الشباب في المبادرات والصناعات البنفسجية والاستفادة من التقدم التكنولوجي والرقمي في تطويرها ونشرها.

** رئيسة صالون المواطنة الثقافي

تعليق عبر الفيس بوك