تسهيل الإِجراءات (6)

 

تفويض الصَّلاحيات

د. صالح الفهدي

 

انتظرَ خمسة وأربعين يومًا حتى تصلَ معاملته المُرسلة من دائرةٍ إقليمية بإحدى الولايات إلى ولايةٍ جارةٍ له، بعدَ ذلك انتظر اعتماد المدير العام فقيل له إن المعاملة في أدراجهِ وهو في إجازةٍ، فسألهم: والعمل؟ قالوا: ليس لك سوى الانتظار..!!

وانتظرَ مثلهُ الآلافُ من الناس شهورًا وسنين بل عقودًا من الزَّمنِ حتى تُنجز مصالحهم، وتُقضى أعمالهم، وتعتمد مشاريعهم، حتى تراخت عزائمهم، وفترتَ هممهم، لكثرة ما يتابعون، ويسألون، عن أعمالهم التي يتقاذفها الموظفون من واحد لآخر حتى امتلأت هوامشها بالتعليقات فأصبحت وكأنها شكلٌ من أشكال الطلاسم في كُتب الأَسرار!! 

كم هي المعاملاتُ التي تنتظرُ في الأدراج، والملفَّات وصولَ المسؤول؟! وما هو مصيرُ هِمم الناس، ومشاريعهم، وطموحاتهم، أثناءَ تمتُّع المسؤول بإجازتهِ؟! ما هو مصيرُ وطنٍ بكاملهِ إن أحصينا مُدد توقف المصالح لإجازةٍ أو لفراغ كرسي المسؤول؟! ناهيكم عن بعض إجازات موسومية لبعض أهم المرافق الأساسية في الدولة لأشهر تتوقف فيها المصالح توقفًا تامًا، ثم حين تُستأنف الأعمال تكون المصالح قد تراكمت أضعافًا مما يعني التأخير في مواعيد إنجازها، علاوة على ما يشوب إنجازها من خللٍ وتقصيرٍ نتيجةً للضغوطات التي تصاحبُ إنجازها والسرعة المفرطة للتخلُّصِ منها بسبب ما يسمى بكرة الثلج التي كبر حجمها وهي تتدحرج من قمة الجبل..!

لننظر إلى أحد أهم الأَسباب التي تعيق سيرورة الأعمال، وتسهيل الإجراءات، وقضاء المصالح وهي الاحتفاظ بالصلاحيات لدى مسؤولٍ واحدٍ فيما يسمَّى بـ(المركزية)، فإن انشغل بالمهمَّات، وإن غاب عن العمل، وإن خرج في إجازة توقفت جميع المصالح..فماذا يعني توقفها؟ هل هي مجرَّد أوراقٍ تحتاج إلى إمضاءٍ وختم؟ ليتها كانت كذلك! بل هي جهودٌ مضنيةٌ، ومشاريع طموحة، بذل من أجلها أُناس ما يستطيعون من طاقةٍ ومالٍ كي تحسِّن من حياتهم، وتغيِّر من واقعهم.. لكنها تصطدمُ كلها بجدار البيروقراطية الصلب، فيخسرُ الناس بالتعطيلِ، والتأميل، والتطويل طاقاتٍ كانت متوقدة، وأموالًا خصصت لبدءِ المشاريع، فتتضاءل تطلعاتهم، وتقلُّ توقعاتهم، ويتنازلون- مع التعقيد- عن المشاريع التي كانوا يتطلعون لإقامتها، وهُنا يخسر الوطنُ حراكًا اقتصاديًا جرَّاء ما يعتور طريق التنمية من تعقيد المصالح بسبب مركزية القرار، والاستحواذ على الصلاحيات.

شكا أحد المديرين أن نائبه لا يقوم بواجبه العملي، معلِّلًا درجة تقرير أدائه السنوي الضعيف، فردَّ نائبه على لجنة التظلُّمات اسألوا المدير: لِمَ يسلِّمني قائمة طويلة من المهام والواجبات قبل أن يخرج في إجازته للقيام بمتابعتها؟، أين كانت هذه القائمة وهو دوامه الرسمي؟! ويضيف: "إنها مركزيته (البارعة) في الاحتفاظ بالصلاحيات، ثم يتَّهم نائبه بأنه لا يقوم بعمله، فكيف يقوم به وهو لا يملك تفويضًا بالصلاحيات؟!".

إن أحد أهم مسؤوليات المسؤول الناجح هو إعداد الصف الثاني للقيادة والمسؤولية، ولا شك أن أحد ركائز الإعداد هو تفويض الصلاحيات، وإلاَّ ما استحق المسؤول المنصب الذي يشغره، ولا المسؤوليات التي يقومُ بها، لأنه يكون حينئذٍ قد نظر إلى المنصب على أنه "مُلك" شخصي يستحوذُ هو على قراره، وهذا يجعله مستحقًا لوصفه بالفاشلِ نظرًا لإخراجه نطاق المسؤولية من النطاق الوطني العام، إلى النطاق الشخصي الخاص..! يقول الكاتب أحمد إبراهيم "إن من أهم مفاهيم القيادة الإدارية أنها مجموعة سلوكيات أو تصرفات معينة تتوفر في شخصٍ ما، ويقصد من ورائها حث الموظفين على التعاون من أجل تحقيق الأهداف المعينة للعمل ومن هنا تصبح وظيفة القيادة وسيلة لتحقيق الأهداف التنظيمية في ضوء قدرته على التفويض للشخص الأمثل".

إننا حين نتحدث عن "اللامركزية" والتفويض في اتخاذ القرار فإن ذلك لا يعني على الإطلاق، وفي كلِّ المصالح، إنما نعني به تفويض السلطات خاصة في الوحدات الكبيرة التي تتعلق بخدمة مصالح الجمهور على نطاق واسع، مصاحبة إما بنظامٍ محدد واضح يمكن أن يبث فيه المسؤول الكبير أو الموظف الصغير قراره فيه، ولا يحتاجُ إلى رأي، فضلًا عن أن بعض القرارات فنية لا يستطيع الرئيس أن يبث فيها دون رأي الموظف الفني، كذلك إن توفرت الخبرة والمهارة لدى الموظفين القادرين على اتخاذ القرارات دون الحاجة إلى الرجوع إلى رئيسهم.

يقول أحد المسؤولين في أحد القطاعات الخاصة: "بعد أن فوَّضت الصلاحيات لموظفيَّ، استطعت أن أنتشلَ عقلي من ركام الأعمال الروتينية الصغيرة لأتفرغ إلى صنع الرؤى والإستراتيجيات الكبيرة التي تطوِّر من الأداء، وتحسِّن من وضعِ المؤسسة عامة". لهذا نرى القُبطان في الصور الغالبة وهو ينظر بعيدًا، وقد وقفَ في مقدمة السفينة، ولا نراهُ يقوم بدور القيِّمُ على توجيه دفَّة السفينة إلاَّ إن كانَ قبطانًا فاشلًا لم يستطيع أن يُعدَّ من أفراده من يقوم على توجيه دفَّة السفينة..!

يُؤثرُ عن نابليون بونابرت قوله: "من قال: لا أقدر، قلت له: حاول، ومن قالك لا أعرف، قلت له: تعلم، ومن قال: مستحيل، قلت له: جرب"، وبهذا يكون القائدُ مستحقًا للقب القيادة لأنه لم يعتبرها ملكًا خاصًّا وإنما هي مشروعٌ تملكهُ الأُمة.

في إحدى المرَّات طلبتُ من موظَّفٍ أن يقوم بإعداد مسودَّةِ محضرٍ اجتماع، فقال لي: لا أستطيع، قُلتُ له: لِمَ لا تستطيع، قال: لأن مسؤولي السابق هو من كانَ يعدُّ المسودَّة وأنا أطبعها، فسألته: هل وظيفتك طبَّاع؟ فقال: لا بل إداري، قُلت له: إذن فلتعمل أنتَ المسودَّة ودوري الإطلاعُ على المسودة، وهكذا مضى الأمر في بدايته حتى امتلك الصلاحيات في كثيرٍ من الواجبات، فشعر الموظف بأنه قد مُنح الصلاحية في مهمَّة كان يشعر خلالها سابقًا بالتقزيم والتحقير..!!

نُنهي الكلام هُنا بدعوة المسؤولين بأن يفوِّضوا نوابهم، ومسؤوليهم بالصلاحيات المحدَّدة، ويراقبوهم في أدائهم، ويكافئوهم في حسن القيام بها، ويشجعوهم عند الأخطاءِ غير المقصودة، ويحاسبوهم عن ارتكابهم للمخالفات المتعمَّدة، أمَّا أن هم احتفظوا بالصلاحيات وأخذوها معهم أينما كانوا فليعلموا أنهم مسؤولون فاشلون قد سبَّبوا التعطيل لمصالح الناس؛ بل إنهم قد أضرُّوا أوطانهم من حيث حسبوا أنهم قد أحسنوا إليها!