د. خديجة بنت سليمان الشحية
من الصعب في هذه الأيام والتي بتنا نعتمد فيها كليا على الهاتف في مختلف تعاملاتنا، الاستغناء عن الهاتف ولو لساعة من الزمن، وهذا أمر لا يختلف عليه اثنان.. فقد حدث أن وقع هاتفي من علوٍ مرتفع ليصبح أكثر من قطعة على الأرض، نظرتُ إليه وهم مُهشمٌ كليًا، لا يُعرف إن كان هذا هاتف أم خردة على الأرض!
حزنت قليلًا وارتحتُ كثيرًا!! فقد كنت أبحث عن فرصة للابتعاد عن وسائل التواصل الاجتماعي وعن مختلف التطبيقات التي تربطنا بالهاتف طوال اليوم، وجعلتنا معلقين بها لاهين عن الأرحام والواجب وكل ما يفترض أن يكون خارج هذا الجهاز، الذي أصبح هو المتحكم في أوقاتنا. وجدتها فرصة لعدم شراء جهاز آخر عوضًا عن الجهاز الذي فارق الحياة، وظللت أربعة 4 أيام دون هاتف.. لا أخفيكم سرًا، وجدتها راحة بدونه، وجدتها فرصة لراحة البال، بعيدًا عن المُلهيات التي بداخله، بعيدًا عن الضوضاء التي يبثها وينشرها من حولي بوجوده، وجدتُ الفرصة للذكر الدائم وقراءة الكتب المؤجلة قراءتها، وجدتها فرصة لإعادة ترتيب مكتبتي الصغيرة في منزلي، ووجدتُها فرصة أيضًا لترتيب أفكاري لما أود القيام به لاحقًا في قادم الأيام.. إلّا أنه خلال تلك الأيام الأربعة جن جنون زوجي؛ حيث كان هو وأمي وأخواتي في "خصب"؛ كونهم بعيدين عني، واعتقدوا أنَّ مكروهًا قد أصابني، أو أنني في عداد الموتى، فلقد كان الجهاز يرن عند اتصالهم رغم أنه كان قد تحول لأكثر من قطعة، لكنه كان ينبض بالحياة. عجبًا له كيف كان صامدًا رغم تقطعه لأشلاء! وهذا يُؤكد لي أن الأشياء ترتبط بصاحبها، وقوة تحملها من قوة تحمله؛ كالريحانة التي كانت في بيتنا عندما أكون في أحسن حالاتي كنت أراها بخضرتها وورودها ورائحتها العطرة، وحين أكون مكتئبة حزينة، كنت أراها بذبولها وشحوبها وتكاد تكون لم تروَ من أسابيع عدة.. إنها طاقة كيميائية تربطنا بما حولنا، وجرعات محبة موزعة على كل من وما حولنا. وجدتُ الجهاز أيضًا قد استمد قوته مني.
عمومًا. حدثت طوارئ خلال تلك الأيام الأربعة وتواصل أهلي مع صديقاتي المُقربات، لأجدهم قد وصلوا لباب بيتي للاطمئنان عليّ، وأختي الحبيبة أسماء جاءتني من الباطنة هلعة وفي قلق، ورغم انشغالاتها هي وزوجها إلا أنها أجبرت زوجها لأن يحضرها حتى منزلي، وطوال الطريق وهي تبكي- تحسبني من الأموات- لأنها قبلها بأيام قد رأت في المنام أن إحدانا قد توفاها الله، وكانت تكلم زوجها أن الحلم تحقق ووقع على خديجة! أتتني في لهفةٍ لتطمئن عليّ، ووجدت الفرح لكوني على قيد الحياة بأعين طفليها عامر وصدام.. حمدًا لله على نعمة العائلة وعلى نعمة الحب وكمية الحنان التي نحصل عليها بين فترة وأخرى. لست سعيدة بتلك البلبلة التي أحدثها توقف جهازي، ولكني سعيدة بمقدار القلق والاهتمام اللذين لقيتهما من أهلي والمقربين مني، لا حرمني الله منهم. تلك الأيام كانت راحة لي، حتى وإن تخللها قلق أهلي.
إننا نحتاج بين فترة وأخرى لإغلاق الهاتف لنحظى بالكثير من الراحة والهدوء النفسي.. نحتاج لأن نعود أنفسنا بأننا قد ننفصل عن هذه الأجهزة رغمًا عنَّا كيوم انقطاع الكهرباء ليجن جنون الغالبية العظمى، والذين تعطلت أعمالهم ولم يطيقوا الحر الشديد.. لقد كانت سويعات إلا أن الأغلب لم يتحمل ذلك. لقد تعودنا أن نجد كل شيء متاحا، وأن غياب الأشياء التي أعتدنا عليها يُتعبنا، ويُربك يومنا ويسحب من داخلنا طاقة الفرح والإيجابية.
لذا فإنَّ قناعتنا بتمام الأحوال وكمال الأشياء يجب أن تتغير، ويجب أن نتوقع أن تحدث معنا حالات الطوارئ في شيء ما، ونهيئ أنفسنا لنقصان بعض الأشياء من بين أيدينا، رغم التقدم الذي تحدثه التكنولوجيا والطفرة العلمية في مختلف الجوانب الحياتية، إلّا أن التراجع للخلف واردٌ، والاستعانة بالطبيعة لابُد منها، وأن نبحث عن الرضا في غياب الأشياء، وألّا نرتبط بكل ما حولنا مخافة أن نفقده ونتعب في غيابه.