التاريخ.. والاستفادة منه واقعًا

 

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

 

 

"إن التاريخ هو ذاكرة الأمم، أو معمل كبير لتجارب البشرية، يحفل بمعادلات النجاح لمن يحسن صياغتها". هنري كيسنجر.

------

بادئ ذي بدء، علينا الاعتراف بأن أحد أبرز الأمور التي عُرفت بها سلطنة عُمان هو تاريخها العريق؛ حيث كانت تتمتع بامتداد جغرافي كبير، وشأن مؤثر في عدة مناطق على سواحل شرق أفريقيا، وصولًا لجوادر في باكستان، وكانت مياه المحيط الهندي تعرف تمامًا ما هي عُمان وما هي زنجبار، ومن هم البحارة العمانيون، والنفوذ العماني المسيطر على مساحات جغرافية كبيرة في تلك المناطق، وصفحات التاريخ لا تكل ولا تمل من عبارات التاريخ الخاصة بتلك الأزمان الغابرة.

وفي وقتنا الحاضر وبعد تغييرات جغرافية كبيرة نالت من أقاليم كثيرة، كان ذلك شيئًا من التاريخ، وعقب حدود "سايكس- بيكو"، وتكوُّنات الدول المعاصرة، وعلى طريقة لكل زمان دولة ورجال، أصبحت عُمان هي سلطنة عُمان في وقتنا الحاضر، ولها ما لها من التاريخ العريق، ولها ذكريات التاريخ في أماكن عديدة. وبطبيعة الإنسان عبر الأزمان أنه ما زال هناك الأوفياء الذين يتذكرون الحكم العماني بالخير والفخر والاعتزاز؛ إذ قرأتُ أن مناطق كثيرة في شرق أفريقيا ما زال أهلها يتحدثون العربية باللهجة العمانية المحببة، وما زال اللباس العماني (الزي الرجالي خاصة) منتشرًا في شرق أفريقيا، ويعد وجود أحدٍ يرتدي الثوب العماني أو المَصَر فوق الرأس أو الكُمة، أمرٌ اعتيادي في زنجبار أو تنزانيا أو حتى جزر المالديف.

وبناءً على ما سبق، سنتصور أو يتصور أي باحث أو مهتم بأن عُمان تُعطي التاريخ العريق أهمية كبيرة وفعلية عن طريق تشجيع إقامة المؤتمرات والندوات واللقاءات المتنوعة وبكافة اللغات؛ للنظر والبحث في تاريخ عُمان، وتجهيز المعطيات على الأرض كإقامة المتاحف الدالة على بعض الأمور بذات الشأن، وإنشاء وتأسيس مكتبة وطنية دولية كبيرة تديرها الدولة مباشرة تقوم بتخزين وعرض وحفظ الكتب والمنشورات والمطبوعات التاريخية المعتمدة؛ لتكون عونًا للباحثين وحفظًا للتاريخ من اي عبثٍ قد يحدث، لكن للأسف لا توجد مكتبة وطنية في عُمان بالمعنى الحقيقي، واستغربت هذا الأمر، وهو الذي يعد أمرًا منطقيًا، كون هذه المكتبة إحدى أبرز الأدوات للحفاظ على التاريخ وفق مراجع ومصادر معتمدة.

الحفاظ على التاريخ ليس بالقول فقط، ولا عبر النوايا الصادقة؛ بل هو قناعة تنبثق عنها إرادة تقدم الحلول الجديرة لتوثيق التاريخ، وتأسيس قاعدة بيانات ضخمة تُعنى بهذا الامر. أعلم انه توجد هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية لكنها غير كافية، والمطلوب جهد مؤسسي يقوم به الثقاة من الباحثين التاريخيين من المواطنين لتأسيس المكتبة الوطنية وفق مواصفات دولية علمية موثوقة ومعتمدة، ولا اعتقد بقيام أمر كهذا دون قناعة من الجهات العليا بأهميته البالغة حاضرًا ومستقبلًا.

من الممكن أيضا تجيير التاريخ للمصلحة العامة وخلق فرص عمل وقيام جهات اعتبارية تُفيد البلد من خلال الاستفادة من بعض القلاع التاريخية المنتشرة في السلطنة والنظر في تحويل المقدور عليه كنزل فندقية، وفق قواعد واضحة. ففي أوروبا انتشرت مثل هذه الأفكار وتحقق نجاحًا ملحوظًا، وأتذكر أني كنت في زيارة للسلطنة قبل سنوات قليلة وشاهدت نزلًا فندقية رائعة في مسفاة العبريين بولاية الحمراء، وبجهود أهلية وليست رسمية، مثل هذه النماذج يمكن أن يستفاد منها وتطور للأفضل.

الحديث كثير حول الاستفادة من مقومات التاريخ، كمعطيات مفيدة للحاضر، لكنها تحتاج قناعة من الجهات الرسمية تتبعها إرادة تجعل من الحلم واقعا، وعمان تزخر بالكفاءات البشرية الوطنية التي تتخصص بعلم التاريخ والآثار، وبها باحثون حصلوا على أعلى الشهادات الأكاديمية في التاريخ، ومؤهلين تمامًا لخلق حالة عامة تهتم وتعطي التاريخ حقه من الاهتمام؛ بل ويمكن تنظيم مؤتمرات خارجية يلقي بها هؤلاء المحاضرات والندوات التي تسلط الضوء على التاريخ العريق، وبالإمكان الاستعانة بهم كمستشارين لإنتاج أعمال فنية تاريخية تغطي فترات هامة من الحكم العماني في سواحل شرق أفريقيا. وهناك تجربة تركيا ماثلة أمام الأعين وهي التي اتخذت التاريخ العثماني مادة هامة أنتجت من خلالها مسلسلات فنية لاقت رواجا ضخما، فعرفت بالتاريخ وروجت للسياحة واصطادت عصفورين بضربة واحدة، وعُمان تملك تاريخًا غزيرًا بالإمكان استخدامه بما فيه للصالح العام، ويمكن تأسيس صيغة سياحية جديدة تتخذ من التاريخ منطلقًا، لم لا؟!

تخيل معي لو أن أي باحث أو زائر يجد في عُمان مكتبة وطنية كبرى وفق أحدث النظم المعتمدة، ويختار إقامته في أيٍ من العديد من النزل الفندقية ذات الخمس أو أربعة نجوم بقلاع تاريخية، فهل يتحقق هذا الخيال لواقعٍ؟