الأُمم الأخلاق (20)

 

أخلاقيات القادة

د. صالح الفهدي

 

ألقى العميد الركن جوي أحمد بن محمد المشيخي آمر كلية القيادة والأركان المشتركة في تخريج الدفعة (35) من القادة الخريجين كلمة ذات أثرٍ، ومعنى في ختامِ خطابه، ولعمري فقد أراد لكلماته التي رصَّعَ بها خاتمة خطابه أن ترسَخَ في القلوب، لا أن تمرَّ على الأذهانِ مرورًا عابرًا؛ حيثُ قال: "أيها القادة الخريجيون: كلمة أخيرة أوجهها لكم في هذا الصرح العريق وأنتم تخطون خطواتكم في سُلَّم القيادة، والإستعداد لحمل أمانة الدفاع عن الوطن وحماية مكتسباته، أن تكونوا واعين لطبيعة الصراعات القادمة، التي لم تعد تقتصر على ما درسناه وقرأناه في المراجع المتخصِّصة؛ بل أصبحت ملامح الصراعات القادمة، صراعات ثقافية فكرية، تستهدف القيم والثوابت والمعتقدات والولاء للأوطان والتشكيك في رموزها ومرجعياتها، من أجل تفكيك المجتمعات ليسهل إسقاطها من الداخل، من خلال الترويج لشعارات برَّاقة تحمل في ثناياها الخراب والدمار والسمَّ الزُّعاف لزرع بذور الفتنة والشقاق في المجتمع الواحد، مستخدمة ما أنتجته التقنية الحديثة من وسائل اتصال وثورة معلومات جعلت من الكون قرية واحدة، فعليكم -وأنتم تخوضون المرحلة بكل تقلباتها- أن تكونوا مدركين لكل هذه التحديات واضعين نصب أعينكم مصلحة الوطن العليا وأمنه واستقراره خلف قيادته الحكيمة".

إنَّ حصافةَ هذا القائد جعلتهُ يتجاوزُ في خِطابهِ التقليدَ المتبع في الخطاب العسكري، لأنَّ القضيَّة قد باتت في نظرهِ قضيَّة "أمنٍ وطني" لا سيما وأنها "تستهدف القيم والثوابت والمعتقدات والولاء للأوطان والتشكيك في رموزها ومرجعياتها" وذلك هو السبيل الملحوظُ اليوم إلى " تفكيك المجتمعات ليسهل إسقاطها من الداخل"، ولم يكن قولهُ إقحامًا على خطابِ المناسبة، وإنما تعميقًا لأبعاد المهمة الجليلة التي تُناط على كاهل القادة وهي"حمل أمانة الدفاع عن الوطن وحماية مكتسباته".

إنَّ دور القائد هو الدور المؤثر في مسيرةِ الأُمم لأنه يشكِّل أُنموذج القدوة التي يتأسَّى بها الأَتباع، ولهذا تكون أخلاقهُ هي المؤثرة في أخلاقِ تابعيه، ومرؤسيه، فإن تميَّز القائد بالأخلاق الرفيعة، والقيم السامية النابعة من إدراكه بقيمة التأثير الإيجابي الذي يصنعه في الآخرين فإنه لا يصنعُ أفرادًا يتَّبعون نهجهُ وإنَّما يصنعُ مدارسَ ومناهج وأجيال.

أستذكرُ هُنا كتاب "رجالٌ حول الرسول" للمؤلف خالد محمد خالد، الذي قرأته منذ سنين عديدة؛ حيث وجدتُ كوكبةً من 60 رجلًا خرجوا من مدرسة القائد الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، فلم أجد رجلًا في كلِّ صحابيٍّ منهم، إنَّما وجدتُ كلَّ واحدٍ منهم مدرسةً عظيمة لها تميُّزاتها، وتفرُّداتها في الحياة.

القائد الحقيقي هو المؤثر في أتباعه ليس بالقولِ وحسب بل وبالأفعال ليكون قدوةً ماثلةً أمامهم، وما أحوج المجتمعات اليوم إلى القدوات الفاضلة التي تجعلُ من القيم الرفيعة منهاجًا لها يسيرُ على ضوءه أتباعها، ويترسَّمون طريقه في "حمل أمانة الدفاع عن الوطن وحماية مكتسباته"، وهذه الأمانة لا تكون بالسِّلاحِ وحسب، بل هناك ما هو أعظم وأسمى وذلك عبر تعزيز القيم النبيلة، والأخلاق الكريمة في المجتمع، فماذا يفيد السلاح أداةً للدفاع عن الوطن إن تهاوتْ ركائزُ قيمه، وتخلخلت أركان أخلاقه؟!

الدفاعُ عن الوطن قبل أن يكونَ ردع المعتديِ الغاشم في الحدود، فإنه يكون في قلبِ المجتمع من خلال تقوية العناصر المعنوية فيه لإدراك قيمة الوطن، ومعنى "حماية مكتسباته" التي تأتي الهوية في قلبه، وما الهوية إلا مجموعة القيم والأخلاقيات والثوابت المتوارثة والمكتسبة.

الدفاعُ عن الوطن قبل أن يتم في سمائه لدرءِ المخاطرِ عنه، فإنه يتمُّ في الأرضِ بدرءِ الفتنِ التي تسلَّل بين مكونات المجتمع، لتزرع الفرقة فيه، وتوسِّع الشُّقة، وتباعد بين أفراده، وجماعاته، حتى يسهل القضاء عليهم، وقد فعلت ذلك الدول (الإستعمارية) في الماضي حين كانت تُرسل مستشرقيها الذين يعيشون وسط القبائل والمجتمعات ليغرسوا الفتن بينهم، ويُفككوا روابطهم، حتى يضعفوهم تمهيدًا لاستعمارهم أو بالأصح "لاستخرابهم"..!

القائد الذي يكون قدوةً في أخلاقهِ يصنعُ ثقافةً، ويؤسسُ جيلًا، وهذه هي من أجلِّ واجبات القائد، ولا شك بأن قدوتنا في هذا نبينا الأكرم محمد عليه الصلاة والسلام القائد الذي جاءَ بمهمَّةٍ عظيمة: "إنَّما بُعثتُ لأُتمم مكارم الأخلاق" (رواه أحمد)، فتركَ منهاجًا أخلاقيًا واضحًا تمضي عليه أمَّتهُ، محفِّزًا كل من يتمسَّكُ به نيل المكانة العالية في الآخرة: "إن من أحبِّكم إليَّ، وأقربِكم مني مجلسًا يوم القيامة، أحاسنَكم أخلاقًا" (رواه الترمذي).

خلاصةُ القول..إنَّ أعظم ما يتحلَّى به القادة هو وعيهم بما يحيق بوطنهم من مخططات عدوانية على مختلفِ الصُّعُد، ليست العسكرية وحدها وإنما الثقافية والفكرية والإجتماعية والسياسية والإقتصادية، وأن واجبهم نحو الدفاع عن وطنهم لا يكمن في حمل السلاح وحسب، وإنما حمل الوعي اللازم لمحاربة الأفكار التي تتقصَّدُ محاربة القيم، وإفساد الأخلاق، وذلك بأن يكونوا قدواتٍ صالحة في ميادين الأخلاق والقيم الكريمة، حينها سيطمئنُ الوطنُ بأن لديه قادةٌ لهم من الوعي والحميَّةِ والشهامة ما يجعلهم مستحقين وصف "العينِ الساهرة" على أمنهِ واستقراره.