شفاءً لا يغادر سقمًا

 

يوسف عوض العازمي

@alzmi1969

 

"وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ" (سورة الشعراء، الآية 80).

****

الإنسان ضعيف مهما ادعى القوة والشكيمة والتَّحمل، تخيل حفنة من بودرة قليلة جداً من السم يُمكن أن تنهي حياة بني آدم وبسهولة، الإنسان ذو العقل السوي لا يأمن الدنيا ولا الصحة ولا المال ولا ملذات الحياة الفانية، والعاقل خصيم نفسه ويقول الحكماء أي يوم يعيشه الإنسان محسوب ومحاسب عليه؛ فالأمور ليست في فلتان؛ بل في خانة الحسبة المحاسب عليها الإنسان، والدنيا ومعايشتها والاختلاط مع البشر له عناوين وله خطوط عريضة، ومهما عشت سواء طالت مدة الحياة أم قصرت، فاليوم محسوب ومكتوب، ولا جزع ولا فزع، فكلنا لها.

والإنسان تكاد العاطفة فيه هي الأصل، والعاطفة في مجملها الإيجابي وليس العاطفة السلبية، أحيانًا تصلنا أخبار عن عارض صحي داهم أحد الأحبة، فمن دواعي العاطفة الإنسانية والوفاء والتقدير نحزن لحزنه، ونضيق من ضيقه، وليس في الأمر جزع، لكنه الوفاء الذي يربط القلوب حتى لو باعدتها المسافات، والوفاء خصلة تكاد تكون الأهم في طبائع وخصال الإنسان، ولا أتصور كيف يعش الإنسان حياته وتكون علاقاته مع النَّاس بلا وفاء، فالوفاء بحسب اعتقادي هو الجامع المجموع لجميع الخصال الإنسانية الطيبة.

أعرف أحد الأحبة وقد تعرَّض لمرض عضال وتصور الكثير أنَّ ملفه في الدنيا قد طوي، وينتظر النزع الأخير، والآن هو يعيش حياة هانئة وعاد إلى وظيفته، ومع أسرته الصغيرة في خير وأمان. إن الله سبحانه عندما يبتلي أحد عباده لربما اختبارا لصبره، وأجرا وتطهيرا، فأمر المؤمن كله خير؛ لذلك علينا عندما نتعرض لأي عارض صحي أن نستعين برب السموات والأرض خالق الكون ومداراته، فلا دواء ولا طبيب ينفع كما ينفع الدعاء وأيضًا كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: "داووا مرضاكم بالصدقة".

الأكيد أن الإنسان ضعيف، وما دام الشيء بالشيء يُذكر، فما زالت القراءة في صفحات "كوفيد 19" مُستمرة، ومع طي أي صفحة ونظن بأنها الصفحة الأخيرة، تفاجأنا صفحات أخرى لم تقرأ، وتعليمات أخرى، وتباعد وكمامات وأتذكر:

يا زمان العجايب وش بقى ما ظهر

كل ما قلت هانت.. جد علم جديد (1)

أيضا أتذكر أن أحد الزملاء من جنسية عربية كان يعمل معي في القطاع الخاص ويناهز عمره الستين عامًا تقريبًا، شعر بآلام في صدره ولما ذهب للطبيب وبعد الفحص كتب له روشتة علاجات لم تقنع صاحبنا، على قاعدة: "صاحب العلة أعلم من الطبيب"!

فقرر العودة إلى بلده ليفحص من جديد، وهناك عندما أجريت له الفحوصات كانت النتيجة بأنَّه في المراحل الأخيرة لداء خبيث، وأن مدة وجوده على الحياة لن تتجاوز الشهرين على أكثر تقدير، وصرفت له عدة أدوية وكذلك مواعيد كي يباشر بها وطلب منه العودة للطبيب بعد يومين لاستكمال العلاج، وعندما عاد إلى بيته الريفي بقريته الصغيرة رمى كل الأدوية بسلة المهملات، وقرر التوقف نهائيًا عن تناول الأدوية حتى أنه ألغى مواعيد الذهاب للطبيب (بالطبع هذه الكلمات ليست تحريضًا أو دعوة لعدم الثقة بالأطباء المحترمين، لكني أذكر واقعًا حصل وهو استثناء لا شك في ذلك). وقرر زميلنا التفرغ للحياة التي يحبها في خلال هذين الشهرين اللذين سيودع بعدهما الحياة، وأخذ يتذكر إن كان لأحد عليه حقوق، من ديون وغير ذلك، وأصبح برنامجه اليومي الاستيقاظ أول الصباح لصلاة الفجر وبعدها يتناول إفطارًا شهيًا سخيًا لم يفطر مثله بحياته (كما ذكر لي) وهو إفطار بلدي ريفي طبيعي، وبعد كأس من الشاي المُعتبر، يتوجه لحقله الزراعي ويعمل به بجد ونشاط ورغبة ونفسية رائعة حتى وقت الغداء، يحلف لي بأنه حتى في واجباته الزوجية تغير الحال كأنه عاد شابًا، وأي شيء كان يحبه ويشتهيه لم يحرم نفسه منه لأنَّ الأيام تجري بسرعة، والشهرين ربما أسرع من يومين!

كان الجميع ممن يرافقه في عائلته الصغيرة في ذهول وتعجب من حال هذا الموعود بالموت بعد شهرين؛ إذ تغيرت نفسيته 180 درجة، وتبدلت أحواله بشكل غير مسبوق، فكانت ضحكاته تملأ المكان، يكاد يسمعها من هو على بعد 100 متر. وأصبح يأكل أحسن أكل ويلبس أحسن لباس، وانتهت أيام ضبط المصروف، وأي مصروف! فالأيام تجري جرياً وكل يوم بل كل ساعة لها حسبة، كأنه كان ميتا وبعثت روحه من جديد، المُفارقة زاد وزنه أثناء شهري انتظار الموت !

مضت الأيام سريعة، ووصلنا للشهرين، ويا للغرابة لم يمت، فكان مستغربًا من عدم موته، ويتساءل: "يا جماعة احنا كملنا شهرين فين الموت، هو عنده مواعيد أخرت جيته؟!".

قرر الذهاب للطبيب ليسأله عن سبب عدم الموت، لأن الشهرين انتهى وقتهما البارحة ولم يمت (حسب كلامه كان قد جهز الكفن ومستلزمات الموت) وعندما ذهب للطبيب استغرب ليس من عدم موته إنما من التغير الكبير في حالته، فالوزن زاد، والوجه ازداد بياضًا، والابتسامة كأنها شروق يوم جميل، والنفسية نفسية من حصل على ثروة تقدر بمليار وليس مليون!

قرر الطبيب إجراء فحوصات عاجلة للنظر في ماهية الحالة التي لم يمت صاحبها، وعند الطبيب كان صاحبنا يطلق القفشات على الطبيب وإحدى القفشات: بأن عزائيل مُخاصم الدكتور.

 

نهاية القصة الحقيقية أنه بعد الفحوصات تبين أنَّ الداء الخبيث اختفى تمامًا، وأرجع الأطباء السبب إلى نفسية المريض واستيعابه للوضع بإيجابية وتمكنه من قتل الداء بسبب الثقة العالية بنفسه وإيمانه بأن الأجل والساعة بيد الله وليست بيد مرض أو تشخيص طبي قد لايحمل الدقة المطلوبة.

عن أَنسٍ رضي اللَّه عنه أَنه قال لِثابِتٍ رحمه اللَّه: «أَلا أَرْقِيكَ بِرُقْيَةِ رسولِ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم؟ قال: بَلى. قال: اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ، مُذْهِبَ البَأسِ، اشْفِ أَنتَ الشَّافي، لا شافي إِلاَّ أَنْتَ، شِفاءً لا يُغادِر سَقَمًا»، رواه البخاري.

الأكيد أننا ضعفاء ولا نساوي جناح بعوضة، وأمرنا كله من الله وإلى الله، وأسأل الله الشافي المعافي أن يشفي كل من يعاني مرضًا أو الذي لم تستقر أحواله الصحية.. وأسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيه شفاءً تامًا عاجلًا غير آجلٍ، وأمر المؤمن كله خير.

حفظ الله الجميع من كل داء ومرض.