قصة مجتمع الساحل

 

 

سليمان المجيني

tafaseel@gmail.com

 

أتحدث هنا عن البسطاء ممن عاشوا في المجتمعات المحلية على ساحل الباطنة، عاشوا ببساطتهم وبطريقتهم العفوية، عفوية التعامل والتفكير وعفوية العيش نفسها، لم يتعلموا الادخار لأنهم لم ينعموا بفائض مالي، نشاطاتهم تتلخص في مهن معروفة ومكاسبهم المالية لا يستطيعون التعرف عليها فهي لا تبقى كثيرا.

حديثي له علاقة بالمشروع الساحلي الذي انتظره هذا المجتمع لينقل حرقتهم على فراق المكان إلى فرح كبير، فرح لا يُوازي بعدهم عنه لكنهم أرادوا الأفضل لبلادهم ومكان عيشهم، وللرجوع إلى المكان فقد امتاز اختيارهم له بالذكاء، أوضح لنا المشروع الساحلي ذلك، وبين ما يخفيه المكان من استراتيجية حماية وأمن لا تهدده الطبيعة، فبعد هدم البيوت التي أنهت الحكومة التزاماتها مع أصحابها اتضح المكان جليًا كمجموعة من التلال الرملية المرتفعة والممتدة بطول الشاطئ الموازي والقريب.

هذه التلال مثلت العمق الاستراتيجي لعيشهم فمن أمامهم البحر ومن خلفهم المزارع، أماكن سهلة المنال في يوم من الأيام لكنها ثمينة، الشاطئ لا يمثل تهديدا لهم بسبب طبيعة بحر عُمان المهادن وقد عرفوا ذلك بطريقتهم وخبرتهم التي كرسوا لها حياتهم عبر السنين، أما التهديد الآخر فيأتي من خلفهم حيث الأماكن المنخفضة وهي مصب الوديان المتجمعة من الأماكن المرتفعة في الجبال، أنشأوا المزارع لتستفيد من مياه تلك الوديان ودرءا لها في حال غزارة السيول، ومع ذلك لم ينسوا أماكن مرورها للبحر؛ فهم لا يعتدون على الطبيعة ويدركون الأخطار الجاثمة خلف ذلك.

من يعيشون بمحاذاة الساحل يتمتعون بالاستقرار النفسي، هذه حقيقة أثبتتها بعض الدراسات العلمية، عرفوا ذلك دون وعي منهم، بالرغم من طبيعة العيش القاسية وسنوات الجفاف التي اضطر فيها الكثير من الأهالي لترك بلدانهم للعمل خارج الوطن.

مع ذلك وجدوا مجتمعهم على الساحل في هذه البقعة من الأرض، وجدوا استقرارهم على ساحل الباطنة وارتأوا أن غيره ليس مكانا لهم، فخلفهم تعوي الكلاب وتنهق الحمير وتنبت العاقول وتأتي الوديان ويستنقع الماء، إنها أرض غير مرغوبة، كبر الأبناء وكبر الطموح، وتوالت المشاريع الحكومية وغير الحكومية، لكن قرى الساحل بقيت على طبيعتها حتى وصلت الأنباء بضرورة نقل السكان منها للسكن في الأماكن غير المرغوبة سابقًا؛ لأن الحكومة سوف تنشئ طريقًا بحريًا جديدًا.

كان الخبر بمثابة التهيئة لقبول الواقع خصوصًا وأن بيوتهم المتهالكة سوف تستبدل بغيرها أكثر أمانًا وقوة، حاول بعض الأبناء الذين يدركون أهمية المشروع للبلاد من الناحية الاقتصادية والأمنية مساعدة الحكومة لإقناع كبار السن ممن يشكلون عقبة أمام المشروع وقد تم ذلك، لكن القلة القليلة التي لم تنهِ إجراءاتها طمعًا في المكان لحبه ومؤانسته، ولأن اقتلاع الشجرة من مكانها قد يميتها على الفور.

حدث الأمر بسرعة بطيئة، كثيرون فرحوا بانتقالهم لتلك البيوت واستقرارهم بها، لكنهم فوجئوا بالإعصار المُدمر الذي غير نظرتهم للأمر (حدث في أكتوبر 2021)، الأمور انقضت وأخذوا ثمن ذلك، أما البقية الباقية منهم والذين تأخروا عن إكمال إجراءات التعويض فاستنجدوا بأهلهم (حيث تعوي الكلاب) خوفًا من البحر فآووهم لكن بيوتهم على الساحل بقيت كما هي، ولم تتأثر رغم هشاشتها لأن الإعصار مرَّ بسلام من هناك بسبب طبيعة الرمال التي اختزنت المياه وحصنت التربة، ووجدت الوديان (الرمال) سدًا منيعًا عن الدخول، إلا من الأماكن المسموح لها، والبحر ظل مهادنًا كما هو لم تتغير طبيعته إلا من بعض الأمواج التي لم تكن تغضب على بيوت الساحل، بعكس المكان الجديد الذي هو مرتع للوديان الهابطة والمخططات السكنية وغير السكنية التي لم تراعِ مجاري المياه فدخلت البيوت من أبوابها الواسعة وعاثت بها خرابًا.

العبقرية في اختيار مكان العيش قديمًا توضح خبرة أهلنا مع تقلبات الجو، وكلماتهم التي ترن في أذهاننا عن بعض الأماكن كونها لا تصلح للسكن وبالتالي لم تكن لهم مطابع بها لهو درس يجب تعلمه.

تعليق عبر الفيس بوك