صالح العزاز.. و"المستحيل الأزرق"

 

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

هناك أشياء لا يمكن أن نجربها بهذه الدرجة من الشفافية، إلا حينما نكون في الحالة المضادة، كما لو كانت قبضة الألم هي المحرك لحالة من الحب الذي لم يجرب من قبل" صالح بن عبدالله العزاز.

***

أحيانًا نندم على خطأ لم نرتكبه، ولكنه في عرفنا النفسي خطأ ارتُكب، كيف ذلك؟ لأنني قبل سنوات كنتُ في مدينة الخبر الساحلية الجميلة بشرق المملكة العربية السعودية الشقيقة، وكنت خارجًا للتو من أحد منافذ بيع الكتب، فسألني صديقي المرافق: هل تعرف صالح العزاز؟ فقلت لا والله.. من هو؟! فقال هو مصور فوتوغرافي وكاتب صحفي سعودي تُوفي قبل 3 سنوات، وفي المكتبة قبل قليل توقعت أن تقتني كتابه "المستحيل الازرق" الذي أصدره بالمشاركة مع الكاتب البحريني قاسم حداد، لكن- وقتذاك- لم يسمح الوقت للرجوع للمكتبة واقتناء الكتاب.

قرأتُ بعد ذلك عن العزاز، ونبذة عن مسيرته وآرائه التي أثارت ضده الكثير من التيارات الفكرية التي عارضت الأفكار التي تبنّاها، خاصة وأن تكون مصورًا فوتوغرافيًا في وقت كان فيه التشدد في ذروته إزاء مثل هذه الأفكار والأمور، وكان أمر مثير للجدل وقتها،. وكان العزاز مستمر بهوايته ومسيرته رغم الجدل ورغم ما اعتبره البعض مضايقات معيقة.

لا شك أن احترام الثوابت الشرعية واجب، وعلينا الالتزام بها، لكن هناك أمور يُثار حولها الجدل وتدور في رحاها نقاشات وتباينات لا تخفى على المتابع، وقضية أن كل شيء فيه شبهة حرام أي ليس حرامًا بائنًا لكن فيه شبهة والبُعد عنها يكون لسد الذرائع، فقد ظهرت اجتهادات بشأن التحريم، ومن يأخذ برأي آخر تقوم دائرة الشك حوله وبأنه.. وأنه... وهلم جرَّا من الاتهامات!

العزاز- رحمه الله- كان شاهدًا على مرحلة مهمة مرت بها المنطقة، وهي- وإنصافًا للحقيقة- لها ما لها وعليها ما عليها؛ كسائر المراحل التاريخية التي مرت علينا. لكن صالح العزاز- وإن لم يكن رمزًا جدليًا بمعنى الكلمة- ترك بصمات لا تُنسى إبان تلك الفترة، وكانت أنشطته مثار نقاشات بين مؤيد ومناهض، وهذه طبيعة المواقف المتفردة. ولا شك أن صالح نال ما ناله، لكنه كان واثق الخطى نحو تحقيق أحلامه المتجذرة من أفكاره التنويرية التي آمن بها، ولا أعلم لو كان بيننا الآن وعاش المرحلة الحالية والتغييرات التاريخية الحاصلة اجتماعيًا وثقافيًا، فكيف ستكون ردة فعله؟

أثناء البحث والتحضير لهذا المقال وجدت جزءًا من نص شعري للمبدع قاسم حداد تم نشره في كتاب "المستحيل الأزرق"؛ حيث كانت الفكرة وضع صورة من تصوير العزاز وبجانبها يعلق حداد شعريًا على الصورة. وكانت الصورة لبائع فاكهة وخضروات بجانب رصيف الشارع؛ حيث يبدو البائع فارشًا صناديق الفاكهة والخضار وجالسًا على كرسي قديم بجانبها، انتظارًا لأي زبون أو مشترٍ معتمر شماغه الأحمر، في صورة تحكي عن نفسها بنفسها، وحيث جادت قريحة قاسم حداد بنص شعري فيما يلي ما وجدته منه:

يحرس كوكبًا شاغرًا

ويبذل فاكهة للطريق

له البرد

ولنا قناديل الحديقة تأخذنا

لجنات مفقودة

له البرد

وبرتقالة الليل راحة للعابر والمسافر

له البرد

يجمع القرائن

ويجمع خساراته

وليس ثمة ما يمنع الأمل

قصة صالح مع المرض العضال حزينة؛ حيث أخذ العائلة للولايات المتحدة للسياحة بعد انشغالات العمل، وهناك كانت رغبته أن يهدي كتابه لمتحف الفن الحديث في كاليفورنيا؛ ليكون كتابه المشترك مع صديقه الشاعر قاسم حداد- رحمهما الله- موجودًا ضمن مقتنيات المتحف الشهير، وهناك داهمه المرض الخبيث؛ حيث تبين بعد التشخيص أنه أصيب به وهو في بداية الأربعينيات من عمره، وهذا قدر الله. هناك- ومن مستشفاه في هيوستن- بدأ كتابة مقالات عن حالته وعن مرضه الذي أسماه "عش العنكبوت"، حتى قرر العودة للرياض بطائرة إخلاء طبي (لا أعلم بالضبط هل بناءً على طلبه أم بطلب من ذويه أم من الأطباء). وفي العاصمة نجد لفظ الجسد المنهك أنفاسه الأخيرة، معلنًا رحيل شخصية غير عادية، كان لها الحضور المؤثر، والذكرى الطيبة.

رحم الله صالح العزاز صديق الشاعر قاسم حداد، فكلاهما توفيا وتركا إرثًا ثقافيًا سيكون شاهدًا لهما وبصمة تؤرخ لمرحلة مضت، وكم أتمنى أن تقوم إحدى الجهات العامة أو الخاصة التي تهتم بالشأن الثقافي، بإعادة طباعة كتاب "المستحيل الأزرق"؛ ليبقى إرثًا ثقافيًا ومرجعًا للمهتمين.