من وحي خريف ظفار

 

 

علي بن مسعود المعشني

Ali95312606@gmail.com

الخريف في مُحافظة ظفار ليس موسمًا مناخيًّا ماطرًا تكتسي فيه السهول والجبال والوديان وشاحَ الإخضرار، ويداعب رذاذه أوراق الأشجار والنباتات ووجوه الناس بمختلف ألوانها وصفاتها وخزين مشاعرها، بل موسم يدفع بالحياة قسرًا كل عام على جميع مفردات المحافظة من بشر وحجر وشجر وحيوان؛ حيث يحتفي كل منها بالخريف على طريقته في مشهد غاية في التناغم والإبهار لمن يقرأ فصل الخريف ببُعد فلسفي عميق.

في الخريف تلتقي كل مكونات محافظة ظفار وكأنها على موعد سنوي طوعي لتجديد الولاء لهذه الأرض الولود بكل خير وجمال وشاعرية، هذه الأرض التي مازالت حُبلى بالمزيد من الدفق الخيري والعطاء اللا مشروط.

ظفار "المحروسة" أرض في عين الله تنطق جميع مفرداتها الصامتة ظاهريًا بمشيئة الله في الإعمار والحياة وكأنَّ الظفاري كائن يموت كي يُبعث حيًّا مجددًا ليمارس الحياة مرارًا، وكما يُحيي الخريف بذورا مُتقادمة مُتجددة تُلبي نداء الخريف وتستجيب له كل عام، لتذكر ظفار بالحياة وتُذكر النَّاس بظفار.

في موسم الخريف تشهد ظفار حراكا فولكلوريا تتناغم فيه الطبيعة مع المناخ والإنسان، وكأنَّه حلف كالعهد بين تلك المفردات الثلاثة، حيث تجود الأرض بثمار يستنهضها الخريف لتشع بالحياة مجددًا بعد طول انتظار؛ فيستفيد منها الإنسان والحيوان معًا، وفيما مضى كان الإنسان بظفار يشمر عن سواعده فيرمي بذورًا حول سكناه دون عناء يُذكر؛ حيث يتكفل الخريف بسقيها ليهديه موسم "الصرب" ثمرة جهده صنوفا متعددة من الحبوب تُعينه وتقيه من الجوع والفقر والعوز إلى الخريف القادم... وهكذا.

وفي موسم الخريف، يُعمد الظفاري فرحته بالزواج؛ حيث تعم الأفراح ربوع المُحافظة فيما يشبه الكرنفال السنوي بهذا الاقتران الذي يُشبه الاقتران بالحياة، وكأن الظفاري يتناغم مع فرحة الأرض بالخريف وتفاصيل الحياة من حوله بأفراح الزواج والتزاور والتهاني والتبريكات وصلات الرحم التي تشتعل مع بواكير الخريف في كل عام.

الخريف في العقود الأخيرة، اقترن بحياة مدنية شغلت الناس وحرفت اهتماماتهم عن كثير من طقوس الماضي، فيأتي الخريف ليُعيد للناس الكثير من الماضي حيث يتفرغ الغالبية منهم من عمله ليتمتع بأدق تفاصيل الخريف من تجمعات عائلية وسهرات ورحلات، وما يتخللها من مباعث مبهجة للنفس ومرمِّمة لآثار المواسم التي فرضت على الناس الاشتغال في مصالحهم، والبعد قسرًا عن مظاهر وطقوس الخريف.

في ظاهرة ربانية وغير مفهومة علميًّا، يصف علماء الآثار ظفار بأنها آخر قطعة خضراء في الجزيرة العربية، فيما كانت تُسمى بالأراضي العربية الخضراء (أرض العرب) في العصر الجليدي الأول، ويعدنا الحديث النبوي الشريف بعودتها خضراء قبل قيام الساعة وكما كانت.

كما يصف الأولياء والصالحون ظفار بأنها أرض محروسة من الله بأنجم ربانية ثلاثة (الحيمر، الشلي، الكليل)، مهمتها تطهير ظفار بفيضانات وأعاصير وتجديد الطاقة الإيجابية بها كلما زاد بأرضها مكونات الطاقة السلبية ومفردات الشرور، ومن لطف الله أنَّ تلك الفيضانات والأعاصير تكون أضرارها محدودة جدًّا على الإنسان رغم هولها.

حين زار المُؤرخ العربي العراقي الدكتور جواد علي، ظفار في مطلع عام 1970م، قال لمُرافقه :" ظفار أرض جاذبة"، حيث لمس في ظفار طاقة جاذبة لم يلمسها في جغرافية أخرى زارها.

------------

قبل اللقاء: "من يتأمل ويتدبر بعمق في ظفار وخريفها، يتيقن أنَّ ظفار سر من أسرار الله في خلقه؛ ففيها من المشاهد ما يكفي للبرهان بأنها أرض تتحدى الزوال وملهمة للحياة".

وبالشكر تدوم النعم...،