علي بن سالم كفيتان
تلوح في الأفق سحابة شاردة تتعقبها الأعين التي أعياها المحل، تذهب بعيداً وتتشتت في سماوات أخرى غير سماواتنا، التي باتت ممرًا لحمولات لا متناهية من البياض الناصع، في حين يظل الجدب ساكناً على الأرض المقفرة، ورغم قسوتها يطيب لنا البقاء بين صخورها النارية القاتمة، لنلملم بقايا الحشائش التي جلبها الريح تحت أشجار السمر، لنُسكِت بها جوع قطعان متناثرة من الأغنام الجبلية التي اصطبغت بلون الأرض، فلا تكاد تراها حتى تسمع حسيسها وهي تتراجع من على أغصان أشجار البوت، وفجأة يصيح الراعي من جرف سحيق مناديا قطيعه: "أررو ...أررو ...تاتا"، فتكررها الجبال وتأخذها الأودية معها إلى منابع الفلج المنساب من قمة الأخضر الشامخ إلى حقول النخيل الساكنة في رحم الهدوء والسكينة، وإلى القرى المتصالحة مع ذاتها؛ حيث لا يزال الشيخ يُعلم القرآن في ناحيته بمسجد صغير تحفه الملائكة وتغشاه الرحمة، وما زالت النساء تزور الحقول كل صباح، ولا يزال الديك يصدح بين جنبات المكان ليعلن عن دنو أوقات الصلاة، هنا رجال لم يكتسبوا الرجولة والشهامة، بل سكنت كل ذرة من أجسادهم الصلبة التي روَّضتها الجبال ولفحتها الشمس، وجُبلوا على الطيب والخلق الرفيع، فلا يكاد يروك إلا ويتقدمون إليك بثبات ليأخذوك إلى بيوتهم البسيطة، فيكرموك قدر استطاعتهم دون تكلف، فتنجذب لهم، وتعاهد النفس لتعود إليهم مجدداً.. إنهم أبناء عُمان المرابطين على كل شبر منها، لا تهزهم المحن ولا يسمحون لآذانهم أن تلتقط الأحاديث المرجفة والشائعات المقرضة التي باتت تملأ الآفاق لتخريب الأوطان وهدم المكتسبات تحت شعارات شتى.
هذا هو إنسان عُمان الذي جُبِل على الجهاد الأخضر؛ فرغم الشح تظل قلوبهم بيضاء ناصعة وساحاتهم خضراء زاهية.
قد يسأل القارئ، وله الحق، عن ربط العنوان بالموضوع، وهذا ما أردت أن أضعه هنا؛ فالجهاد الأخضر في عُمان يقوده اليوم ثلة من الأوفياء لديمومة الأرض واستعادة عافيتها؛ فاليقين أننا لا نملك أرضا أخرى غير هذه الأرض، وهي في الغالب ليست جنات وأنهارا، لكننا نراها في أعيننا أفضل بقعة في هذا العالم؛ لهذا تقوم هيئة البيئة بجهود مضنية منذ إنشائها وتسابق الزمن لعودة اللون الأخضر إلى عُمان.. كل عُمان.. من رؤوس الجبال في الشمال، وحتى ضربت علي في الجنوب، لامست ذلك بنفسي ورأيته بأم عيني في رجل لا يكل ولا يمل من قيادة القافلة البيئية، ويخطط لها بإحكام وتفانٍ ويفترش البساط الأحمدي مع فريق يعمل بشغف؛ فالرجل يعلم كل صغيرة وكبيرة، ومطلع عليها عن كثب، تبيَّن لي كل ذلك من اجتماعنا الأول معه نهاية يوليو الماضي في نادي الواحات بمسقط العامرة، حيث كانت الهيئة ترسم خطتها للعام المقبل 2023، بكل ثبات، وبحضور جميع المسؤولين في القطاع البيئي؛ فطوال ثلاثة أيام كان الحوار يستمر من الصباح إلى المساء ما عدا وقت الصلاة والغداء، ومع ذلك كان الوقت يمر سريعاً لدفء النقاش وحيوية الأهداف والمبادرات التي يتم طرحها، والثقة التي اكتسبها الجميع خلال العامين الماضين، استمعت لمبادرات رائعة من مسندم؛ أشاد بها الجميع، واحتدم النقاش حول قضايانا المحورية في ظفار، كالرعي الجائر وتفعيل دور المحميات وزيادة رقعتها وضبط المخالفات والحفاظ على السلامة البيئية في كل ربوع عُمان، وتحسين المؤشرات المحلية والعالمية، وتفعيل التعاون الإقليمي والدولي...وغيرها الكثير.
ولعل ما ميَّز هذا اللقاء ومنحه القيمة الأعلى هو صمود سعادة الدكتور رئيس الهيئة طول تلك الأيام الثلاثة على طاولته الجانبية ومداخلاته الجادة مع كل ما يطرح وتأكيده المستمر على أن جميع المبادرات والمشاريع الجادة ستجد الدعم المادي والمعنوي، وستصبح واقعاً معاشاً بإذن الله.
في خضم هذه الطاقة الإيجابية لترميم النظم البيئية في كامل الوطن تظل المجتمعات المحلية هي حجر الأساس لنجاح السياسات التي تختطها الهيئة، وتسعى جاهدة لتنفيذها، ولعله مما يسر الخاطر ويفسح المجال واسعاً للأمل بغد أفضل هو الكم الهائل من المبادرات الطامحة التي تمَّ استعراضها، والثقة التي باتت تنمو بشكل متسارع بين الهيئة ومختلف شرائح المجتمع العُماني الوفي.
هذه كانت صفحة من الجهاد الأخضر في عُمان، التي نأمل أن تستمر بتعاون جميع الشركاء.. وحفظ الله بلادي.