سفير السلام من ليبيا إلى تركيا

محمد زاهد جوول

من ينظر من زاوية التاريخ إلى العلاقات بين الجمهورية التركية وسلطنة عُمان، سيجد أنها بدأت بقوة منذ بداية النهضة الحديثة لسلطنة عمان عام 1970م، حيث اعترفت تركيا بنهضتها مباشرة، وأقامت معها علاقات دبلوماسية بعد ثلاث سنوات، وفي الآونة الأخيرة شهدت هذه العلاقات نمواً غير مسبوق، معتمداً على عقود من الصداقة بين البلدين، واستناداً إلى المنفعة المتبادلة والمصالح المشتركة التي شكلتها المواقع الجيوستراتيجية لكلا البلدين، فضلا عن الدور الاستراتيجي الذي لعبه سفير سلطنة عمان في تركيا الدكتور قاسم بن محمد الصالحي.

التطور اللافت للعلاقات التركية العمانية، كان وراءه أشخاص يميلون لتطوير هذه العلاقات بشكل أو بآخر، وكان السفير الصالحي من أبرز وأهم الشخصيات التي كان لها الفضل في النمو المتسارع، الذي أسهم بزيادة التبادل التجاري حتى وصل مليار ونصف المليار دولار عام 2021، كما نفذت 35 شركة تركية مشاريع في سلطنة عمان وصلت قيمتها الإجمالية إلى 8 مليارات دولار، فيما زادت صادرات الحديد والفولاذ والموبيليا والسجاد ووسائط النقل والآلات من تركيا، التي هي الأخرى تستورد من سلطنة عمان الألمنيوم والزيوت المعدنية والبلاستيك وغيرها، كما تم التوصل إلى اتفاق بين المنطقة الخاصة للدقم بسلطنة عمان والمدينة المنظمة الصناعية جبزة لإقامة مدينة تركية صناعية في الدقم، وأيضاً لعبت السياحة والسياحة العلاجية دورا كبيرا في تطوير العلاقات إذ إن عدد المواطنين العمانيين الداخلين إلى تركيا عام 2019م وصل إلى 96 ألفا، وفي عام 2021 دخل نحو 50 ألف سائح عماني إلى تركيا رغم جائحة كورونا.

وعلى الصعيد الثقافي، هناك تعاون قائم بين هيئة المحفوظات والوثائق في سلطنة عمان وأرشيف الدولة التركية لجمع الوثائق التي تدلل على عمق العلاقات بين البلدين والشعبين الشقيقين، وقد عزز سفير مسقط في أنقرة الدكتور قاسم الصالحي، التبادل الثقافي والمعرفي بين البلدين، فهو من كان خلف تأسيس كرسي السلطان قابوس مع إحدى الجامعات التركية، وأسهم في زيادة تواجد سلطنة عمان بأغلب الفعاليات العلمية الدولية التي تقام في تركيا، وبحسب ما تشير إليه المعطيات فإنَّ العلاقات بين البلدين في البعد الثقافي ستشهد تطورا بارزاً خلال السنوات القادمة، وهذا ما يعد أحد منجزات السفير الصالحي، إذ يُعد الرجل أحد القامات العلمية والأكاديمية العمانية، لما له من باع طويل في الدراسات والبحوث والمؤلفات التي أضافت إلى مكتبة سلطنة عمان كتباً جديدة، وعناوين تستحق القراءة والدراسة، فوضع بصدق، وسرد جذاب تجربته الدبلوماسية في كتابه "شاهد من أهلها"، بعبارات فصيحة منمقة، بدأ فيها بالحديث عن ثبات مبدأ سلطنة عمان في موقفها الداعي للسلام، مؤكدا على صحة هذا النهج، وإتزان مساره، مشيراً إلى دقة الرؤية المتسامحة والنابذة للعنف والتطرف، والصادقة في التوجه، المبنية على البذل والعطاء لأجل عالم آمن، وختم كتابه بالتأكيد على وجوب تحقيق السلام، وبذل أقصى الجهود لذلك.

أما عن تجربته في ليبيا، والمساهمة في جمع لجنة صياغة مشروع الدستور الليبي في مدينة صلالة العمانية، فسرد الحكاية كاملة في كتابه "كنت هناك"، عندما كان رسولا للسلام بين الفرقاء، فاستهل الكتاب ببيتي شعر للشيخ سليمان باشا الباروني يقول فيهما:

مالي أرى حبل المواصلة انفصم

بعد الفراق وصار أشبه بالعدم

ما بالكم إخواننا ما بالكم

أنسيتم عهدا تقدم وانصرم

وقد وثق الدكتور الصالحي في كتابه مراحل مهمة من تاريخ ليبيا، وسرد ما عاشه هناك منذ تعيينه سفيرا لسلطة عمان في ليبيا عام 2008 حتى مُغادرته سنة 2016، ويُعرف عنه دوره في إقناع سلطنة عُمان باستقبال عائلة الرئيس الليبي السابق مُعمر القذافي عندما كانت منبوذة، وهو ما يوضح الرسالة الإنسانية التي تجلت في جميع أعماله.

إنَّ الدور الذي لعبه السفير على صعيده الشخصي كان مشابها للدور الذي تلعبه سلطنة عُمان على الصعيد الدولي، إذ سعت، وسعى، لتحقيق السلام، وأرسلته سلطنة عمان رسولا إلى ليبيا.

كما وضع الصالحي جهوده المعرفية في عدة كتب مطبوعة، لعل من أبرزها كتاب "الذات محور التنمية"، وكتاب "الدبلوماسية العمانية وتحديات العولمة"، وقد أصدر عام 2019 كتاب "العوامل الأساسية في تاريخ الدبلوماسية العمانية"، التي تحدث فيه عن تاريخ دبلوماسية سلطنة عمان، ونجاحها في تحقيق التوازن الإقليمي، ودور الحياد الإيجابي الذي تلعبه في المنطقة، وجميع كتاباته ومؤلفاته تدل على مدى حبه للمعرفة والاطلاع، وتشير إلى أنه قارئ نهم استقى علومه من مختلف ينابيع المعرفة.

باختصار.. يمكن القول إن السفير العماني، لم يكن سفيرا يؤدي مهمة دبلوماسية عادية سواء في ليبيا سابقا، أو في تركيا حاليا، بل كان سفيرا للتطوير والسلام، ونشر العلوم وتبادل الثقافات، بشتى المجالات ومع شتى الأمم، والسعي المتواصل لتحقيق ما تسعى له سلطنة عمان من نشر رسالة السلام في كل بقعة ممكنة من الأرض.

تعليق عبر الفيس بوك